كشفت البيانات الاقتصادية الأخيرة عن فجوة صادمة تتجاوز الألف ريال في سعر صرف الدولار الأمريكي بين العاصمة المؤقتة عدن ومناطق سيطرة الحوثيين في صنعاء، مما يرسم صورة قاتمة لواقع الانقسام الاقتصادي المدمر الذي تعيشه البلاد.
تشير أحدث المعطيات المالية إلى وصول الفجوة السعرية بين المدينتين إلى 1092 ريالاً يمنياً، حيث يتداول الدولار في عدن بسعر 1632 ريالاً للبيع مقابل 540 ريالاً فقط في صنعاء، محققاً بذلك تفاوتاً يتجاوز ثلاثة أضعاف القيمة بين النظامين النقديين المنفصلين.
هذا التباين الاستثنائي في أسعار الصرف يعكس حالة انقسام نقدي كامل لم تشهدها دولة أخرى بهذا الحجم عالمياً، حيث تعمل مناطق الحكومة المعترف بها دولياً ومناطق سيطرة الجماعة الحوثية وفق نظامين مصرفيين منفصلين تماماً، يحكم كل منهما سياسات نقدية متضاربة تعمق الهوة الاقتصادية بين مناطق البلد الواحد.
ينسحب هذا التفاوت الجذري على العملات العربية الأخرى، حيث يسجل الريال السعودي في عدن 428 ريالاً يمنياً للبيع، بينما لا يتجاوز 140.5 ريال في صنعاء، ما يعني فارقاً يقارب 287.5 ريال، وهو تباين يوضح امتداد الأزمة النقدية لتشمل جميع العملات الأجنبية المتداولة في السوق اليمني. كما يشهد الدرهم الإماراتي تفاوتاً مماثلاً، متراوحاً بين 433-450 ريالاً في عدن مقابل استقرار نسبي في مناطق الشمال.
يواجه المواطنون اليمنيون والتجار تحديات استثنائية بسبب هذا الانقسام النقدي، فالمسافر من عدن إلى صنعاء أو العكس يحتاج لحسابات معقدة لتحويل أمواله، بينما يجد المغتربون المرسلون للتحويلات المالية أنفسهم أمام قرارات صعبة حول المنطقة الأنسب لإرسال أموالهم، نظراً للفارق الهائل في القوة الشرائية للريال اليمني بين المناطق المختلفة.
تشهد أسواق الذهب في اليمن نفس النمط المدمر، حيث كشفت البيانات عن فجوة ذهبية تتخطى 300% بين صنعاء وعدن. يبلغ سعر جرام الذهب عيار 21 في صنعاء 51,500 ريال للبيع، بينما يقفز ليصل إلى 195,000 ريال في عدن، محققاً فارقاً يقارب أربعة أضعاف القيمة.
الأكثر صدمة يظهر في أسعار جنيه الذهب، حيث تطلب محلات الصاغة في صنعاء 400,000 ريال لبيع الجنيه الواحد، بينما يرتفع السعر ليصل إلى 1,475,000 ريال في عدن، ما يعني أن مواطناً في عدن يحتاج لأكثر من مليون ريال إضافي لشراء نفس كمية الذهب المتاحة في صنعاء. هذا التفاوت الجذري يخلق فرصاً استثمارية متباينة، حيث يجد المستثمرون الصغار في أسواق صنعاء فرصة للحصول على الذهب بأسعار منخفضة نسبياً، بينما تمثل أسواق عدن خياراً للمستثمرين الكبار الذين يسعون للاستفادة من التقلبات السعرية طويلة المدى.
يكمن التفسير الرئيسي لهذه الكارثة الاقتصادية في فشل النظام المصرفي اليمني في الحفاظ على وحدة العملة الوطنية، حيث يعمل البنك المركزي في عدن والبنك المركزي في صنعاء كمؤسستين متعاديتين تطبق كل منهما سياسات نقدية متضاربة وتمنع التعامل مع الطرف الآخر. هذا الوضع يضع اليمن في موقف فريد عالمياً كدولة تعيش انقساماً نقدياً شاملاً داخل حدودها الجغرافية الواحدة.
تلعب القيود المصرفية والتحديات اللوجستية دوراً مدمراً في تعميق هذه الفجوة، حيث تواجه عمليات النقل التجاري بين المناطق تكاليف إضافية هائلة تشمل التأمين والمخاطر الأمنية، مما ينعكس مباشرة على الأسعار النهائية للسلع والخدمات. كما تختلف مستويات العرض والطلب على العملات الأجنبية بين المناطق، مما يساهم في تشكيل بيئات سعرية منفصلة تماماً.
يتحمل المواطن العادي العبء الأكبر من هذا الانقسام المدمر، حيث تنعكس تقلبات أسعار الصرف مباشرة على تكلفة المعيشة اليومية، من أسعار الغذاء والدواء وحتى المواصلات والخدمات الأساسية. في ظل انقطاع المرتبات وتدهور القطاعات الخدمية الحكومية، يجد المواطنون أنفسهم أمام تحدٍ مضاعف يجمع بين انخفاض الدخول وارتفاع التكاليف بمعدلات قياسية.
رغم الاستقرار النسبي الذي شهدته أسعار الصرف خلال الأسابيع الثلاثة الماضية نتيجة بعض الإجراءات الحكومية، إلا أن الفجوة الضخمة بين المناطق تظل مصدر قلق كبير للاقتصاديين والمراقبين الدوليين. هذا الوضع يؤكد أن الصراع في اليمن تجاوز كونه صراعاً سياسياً أو عسكرياً ليصبح حرباً اقتصادية شاملة تستهدف أسس الحياة الاقتصادية للمواطنين.
تُظهر هذه الأرقام الصادمة التحدي الهائل الذي يواجه أي محاولة مستقبلية لإعادة توحيد النظام المصرفي اليمني، حيث سيتطلب الأمر آليات معقدة لتوحيد أسعار الصرف وإعادة بناء الثقة في العملة الوطنية، خاصة مع اعتياد المواطنين والتجار على هذا النظام المنقسم على مدى سنوات. كما تبرز الحاجة الملحة لتدخل دولي وإقليمي منسق لمعالجة هذه الكارثة الاقتصادية، قبل أن تتفاقم لتضع مستقبل الوحدة الاقتصادية اليمنية أمام تهديد وجودي حقيقي.