حققت حضارة سبأ اليمنية القديمة إنجازاً هندسياً لا يزال يحير العلماء حتى اليوم، عندما نجحت في تحويل 98,000 كيلومتر مربع من الأراضي الصحراوية القاحلة إلى واحات زراعية خصبة باستخدام سد مأرب العظيم منذ أكثر من 3000 عام.
تكشف الأبحاث الأثرية الحديثة عن التقنيات المذهلة التي اعتمدها المهندسون السبئيون في بناء هذا الصرح الحضاري الاستثنائي، والتي تضمنت استخدام مسامير عملاقة مصنوعة من خليط الرصاص والنحاس يبلغ طولها 16 متراً وقطرها 4 سنتيمترات لتثبيت الصخور الضخمة وضمان استقرار البناء لآلاف السنين.
امتدت عبقرية هذا التصميم الهندسي إلى ما هو أبعد من مجرد احتجاز المياه، حيث طوّر السبئيون نظام ري متكامل ومتطور يفوق تقنيات عصرهم بقرون. ووفقاً للدراسات المتخصصة، فإن هذا النظام نجح في استغلال الطمي المتراكم خلف السد لتوسيع الأراضي الخصبة تدريجياً، مما جعل الزراعة المورد الاقتصادي الأساسي للمملكة السبئية لعدة قرون متتالية.
تشير المراجع التاريخية إلى أن بناء سد مأرب الأساسي بدأ في القرن الثامن قبل الميلاد، بينما تدل بعض الشواهد الأثرية على وجود إنشاءات مائية أولية في الموقع نفسه تعود إلى الألفية الرابعة قبل الميلاد. هذا التدرج الزمني يكشف عن تطور مستمر في تقنيات إدارة المياه والهندسة المدنية عبر عشرات القرون.
أحاطت بهذا الإنجاز الهندسي الفريد مجموعة من الأساطير الشعبية التي تناقلتها الأجيال اليمنية عبر التاريخ. من أبرز هذه الأساطير اعتقاد انتشر بين السكان المحليين بأن عمالقة من قوم عاد هم من تولوا بناء السد، نظراً للحجم الهائل للأحجار المستخدمة والتي تبدو مستحيلة النقل والرفع بالأدوات البدائية المتاحة في ذلك العصر. كما تحكي روايات شعبية أخرى أن الانهيار الأخير للسد حدث بسبب قوارض عملاقة قامت بنخر أساساته وإضعافها تدريجياً.
يكتسب سد مأرب أهمية دينية خاصة في الوجدان العربي والإسلامي، حيث ذُكر في القرآن الكريم ضمن سورة سبأ تحت اسم "سَيْلَ الْعَرِمِ"، مما أضفى عليه بُعداً روحانياً وتاريخياً عميقاً يتجاوز كونه مجرد منشأة هندسية. هذا الذكر القرآني يؤكد الأثر البالغ الذي تركه انهيار السد على الحياة في الجزيرة العربية.
تسجل المصادر التاريخية تعرض السد لانهيارات متكررة عبر تاريخه الطويل، أهمها الانهيار الذي حدث في القرن السادس الميلادي، والذي تسبب في موجات هجرة جماعية كبيرة غيّرت التركيبة السكانية والقبلية للجزيرة العربية بشكل جذري. هذا الحدث التاريخي المفصلي أدى إلى تشتت القبائل السبئية وانتشارها في مناطق مختلفة من الجزيرة العربية، حاملة معها تقنياتها وثقافتها الحضارية.
أظهرت دراسة أجراها مركز العرب للدراسات الثقافية أن سد مأرب خضع لعمليات ترميم وإعادة بناء تجاوزت 8 مرات عبر تاريخه، مما يعكس الأهمية الحيوية والاستراتيجية التي شكلها للحياة في المنطقة. كل عملية ترميم كانت تشهد تطويرات تقنية جديدة، مما جعل السد مختبراً عملياً لتطوير تقنيات الهندسة المائية عبر العصور.
شكّل هذا المشروع الهندسي العملاق محوراً أساسياً في تحويل مملكة سبأ إلى إحدى أهم القوى التجارية والحضارية في العالم القديم. فالثروة الزراعية التي وفرها السد، إلى جانب موقع اليمن الاستراتيجي على طرق التجارة القديمة، مكّنت السبئيين من بناء إمبراطورية تجارية امتدت نفوذها عبر البحر الأحمر والمحيط الهندي، وجعلت مملكة سبأ مركزاً عالمياً لتجارة التوابل والبخور واللؤلؤ.
للأسف، لم يتبقَ من هذا الصرح الهندسي العظيم سوى أطلال متناثرة وبقايا من جدرانه الحجرية الضخمة، بعد أن تعرض لأضرار إضافية خلال الصراعات المسلحة الأخيرة في اليمن. رغم ذلك، يظل إرث سد مأرب حاضراً بقوة في الذاكرة الجمعية اليمنية والعربية، ويستمر في إلهام المهندسين والمؤرخين المعاصرين كنموذج مبكر للتنمية المستدامة والتكيف الذكي مع التحديات البيئية.