في مشهد يفوق الخيال ويتحدى كل القوانين الاقتصادية، تشهد اليمن انقساماً نقدياً مرعباً حيث يصل سعر الدولار الواحد إلى 1618 ريال في عدن مقابل 535 ريال فقط في صنعاء - فارق جنوني يتجاوز 202% في نفس اليوم! هذا يعني أن 100 دولار تتحول قيمتها من 53,500 ريال إلى 163,300 ريال حسب المدينة التي تقف فيها، في كارثة اقتصادية حقيقية تمزق ما تبقى من جيوب المواطنين اليمنيين وتدفعهم نحو هاوية الفقر المدقع.
في أسواق الصرافة بعدن، تتعالى أصوات التجار وسط ضجيج آلات عد النقود، بينما تقف طوابير طويلة من المواطنين المنهكين أمام المحلات، وجوههم تعكس اليأس والحيرة. أحمد محمد، موظف حكومي من تعز، يروي مأساته بصوت مرتجف: "أحتاج لتحويل راتبي الشهري البالغ 200 دولار لأسرتي في عدن، لكنني أفقد أكثر من 100 ألف ريال من قيمة الراتب بسبب فارق الصرف المجنون هذا". الأرقام تتحدث بوضوح: كل دولار واحد يحتاج إلى أكثر من 1000 ريال إضافية في عدن مقارنة بصنعاء، مما يعني خسارة حقيقية تعادل راتب موظف كامل شهرياً!
جذور هذه الكارثة تمتد إلى انقسام البنك المركزي اليمني منذ بداية الحرب في 2014، حيث يدير فرع عدن وفرع صنعاء سياسات نقدية متناقضة تماماً. د. فيصل الحيدري، الخبير الاقتصادي اليمني، يحذر قائلاً: "هذه الفجوة السعرية كارثة حقيقية تدمر ما تبقى من الاقتصاد اليمني، إنها مثل ألمانيا في عشرينيات القرن الماضي حين كان سعر الخبز يتضاعف خلال ساعات". الحصار الاقتصادي ونقص العملة الصعبة وعدم الاستقرار السياسي، كلها عوامل تتضافر لتخلق هذا الجحيم النقدي الذي يجعل التخطيط المالي أشبه بالمشي في حقل ألغام.
في بيتها المتواضع بصنعاء، تجلس فاطمة أحمد، أم لخمسة أطفال، وهي تقلب أوراقاً نقدية مهترئة من كثرة الاستعمال، رائحة الرطوبة تملأ المكان بينما تتصاعد أصوات بكاء أطفالها الجائعين. "أصبحت عاجزة عن شراء الحليب لأطفالي بعد ارتفاع الأسعار الجنوني، راتب زوجي لا يكفي حتى لأسبوع واحد"، تقول وهي تكافح الدموع. في المقابل، يستغل سالم العولقي، التاجر الذكي، هذه الفروقات ليحقق أرباحاً هائلة يومياً من خلال نقل العملات بين المدينتين، مدركاً أن هذه الفوضى النقدية فرصة ذهبية لمن يعرف كيف يلعب اللعبة. التوقعات تشير إلى مزيد من التدهور مع ارتفاع أسعار السلع المستوردة وتفاقم أزمة السيولة.
هذا الانقسام النقدي الكارثي يمثل نهاية مرحلة وبداية أخرى أكثر ظلاماً في تاريخ الاقتصاد اليمني، حيث تتآكل الطبقة الوسطى ويزداد الفقراء فقراً. الحل يتطلب تدخلاً دولياً عاجلاً لتوحيد السياسة النقدية وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الاقتصاد المنهار. السؤال المرعب الذي يطرح نفسه الآن: كم من الوقت يمكن لشعب بأكمله أن يصمد أمام هذا الانهيار المدمر قبل أن ينهار كل شيء نهائياً؟