في مشهد مأساوي يتكرر بوتيرة مرعبة، انقلب قارب يحمل 25 حلماً يمنياً وسودانياً ومصرياً قبالة سواحل طبرق الليبية، ليُضاف اسم مهاجر يمني جديد إلى قائمة الضحايا التي تطول يوماً بعد يوم. 62 حلماً عربياً ابتلعها البحر المتوسط في أقل من أسبوع واحد - رقم يفوق عدد ضحايا حادث طيران كامل. بينما تقرأ هذه الكلمات، قوارب أخرى تشق المياه المظلمة محملة بأحلام يائسة أخرى، والسؤال المرعب يتردد: من سيكون الضحية التالية؟
في لحظات قليلة تحولت أحلام 25 شاباً إلى كابوس مائي لن ينساه الناجون أبداً. عبدالله، أحد الناجين البالغ من العمر 32 عاماً، يصف المشهد بصوت مرتجف: "رأيت الموت بعيني، الأمواج ابتلعت صديقي أمامي والماء البارد كان يسحبنا إلى الأعماق". خفر السواحل الليبي تمكن من انتشال 24 ناجياً، لكن البحر احتفظ بضحيته اليمنية - شاب في مقتبل العمر ترك خلفه عائلة تنتظر مكالمة لن تأتي أبداً. الإحصائيات مرعبة: 16 سودانياً، 6 يمنيين، و2 مصريين كانوا يراهنون على الموت مقابل فرصة للحياة.
هذه ليست المأساة الأولى، وللأسف لن تكون الأخيرة. منذ عقد كامل والشباب اليمني يخوض رحلة الموت عبر المتوسط، هرباً من جحيم الحرب الذي حول بلادهم إلى أطلال. الحرب المدمرة في اليمن لم تترك خياراً أمام هؤلاء الشباب سوى المراهنة على المجهول المائي. د. فاطمة الحقوقية، خبيرة شؤون الهجرة، تؤكد: "هذه المآسي ستستمر طالما استمرت الحرب في اليمن. الناس لا تهاجر بحثاً عن الرفاهية، بل هرباً من الموت المؤكد". المقارنة صادمة: عدد الضحايا اليمنيين في البحر المتوسط خلال العقد الماضي يفوق ضحايا بعض المعارك الكبرى.
كل عائلة يمنية اليوم تعيش نفس الرعب: هل سيكون ابنها أو أخوها الضحية التالية؟ التأثير يتجاوز الأرقام ليصل إلى صميم الحياة اليومية. في صنعاء وتعز وعدن، العائلات تعيد حساباتها، والشباب يواجهون خياراً مستحيلاً: البقاء في جحيم الحرب أم المجازفة بالغرق في المتوسط. السلطات الليبية تشدد إجراءاتها، لكن اليأس أقوى من أي إجراء أمني. أحمد، ناجٍ آخر يبلغ 28 عاماً من تعز، يقول: "تركت زوجتي وطفليّ بحثاً عن لقمة عيش كريمة، لكن البحر كاد يحرمني من رؤيتهم مرة أخرى". النتيجة مؤلمة: بين من يدعو لوقف الهجرة ومن يطالب بحل الأزمة اليمنية، تبقى الحقيقة واحدة - الناس تهرب من الموت إلى الموت.
مهاجر يمني واحد فقد حياته، 24 آخرون نجوا بأعجوبة، لكن المأساة الحقيقية تكمن في الظروف التي دفعتهم للمجازفة بكل شيء. طالما بقيت اليمن تحترق، سيبقى أبناؤها يبحثون عن الأمان ولو في قوارب الموت. الحل ليس في إيقاف القوارب أو تشديد الدوريات، بل في إطفاء نار الحرب التي تدفع إلى هذا اليأس. السؤال الذي يؤرق الضمير العربي: كم مهاجراً يمنياً آخر يجب أن يفقد حياته قبل أن يجد العالم حلاً جذرياً لمأساة اليمن؟