في شهادة تقشعر لها الأبدان، كشف حانوتي خان يونس عن رقم صادم يحفر في ذاكرة التاريخ إلى الأبد: 18 ألف جثة دفنها بيديه منذ بداية الحرب - رقم يعادل ملء ملعب كرة قدم كامل بالموتى. طافش أبو حطب، الذي قضى عقدين في مهنة الدفن، يواجه اليوم أكبر كابوس في حياته المهنية، حيث دفن في أشهر قليلة ما لم يدفنه في 20 سنة كاملة.
"هذه أصعب فترة في حياتي وعملي"، بهذه الكلمات المحملة بالألم يصف أبو حطب تجربته المرعبة. الرجل الذي اعتاد دفن الموتى في ظروف طبيعية وجد نفسه وسط إعصار من الوفيات الجماعية، يدفن نساء وأطفالاً وعائلات كاملة محيت من السجل المدني. فاطمة السالم، 45 عاماً وأم لخمسة أطفال، واحدة من آلاف النساء اللواتي فقدن عائلاتهن بالكامل ولا يجدن مكاناً كريماً لدفن أحبائهن.
وخلف هذه الأرقام المرعبة تكمن حقيقة أكثر إيلاماً: منذ النكبة عام 1948، لم تشهد فلسطين دفن هذا العدد من الضحايا في فترة قصيرة. القصف المكثف وتدمير البنية التحتية حول مهنة الدفن من عمل اعتيادي إلى كابوس يومي يشبه خط إنتاج في المصنع، لكنه للأرواح البشرية. د. أحمد زكريا، خبير الصحة العامة، يحذر: "المقابر العشوائية تشكل خطراً صحياً وبيئياً يهدد الأحياء والأموات على حد سواء".
واليوم، بعد دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، تحولت الشوارع والبيوت المهدمة والأراضي الزراعية إلى مقابر عشوائية تحكي قصة مأساة إنسانية لا توصف. محمد العطار، 60 عاماً ومقيم في خان يونس، يقول بصوت مرتجف: "لم أر في حياتي هذا العدد من الجنائز... أصوات الحفر لا تتوقف، والتكبيرات تملأ الهواء ليل نهار". وإلى جانب هول المأساة، ترتفع تكاليف الدفن وتنعدم الأكفان، مما يضيف إهانة إلى المأساة.
اليوم، وبينما يستمر البحث عن مقابر عشوائية أخرى قد تضاعف الأرقام المعلنة، يبقى السؤال الأكثر إيلاماً معلقاً في الهواء: كيف يمكن لحضارة إنسانية أن تسمح بدفن الموتى في الشوارع؟ الحاجة ملحة للتدخل الفوري لتنظيم أوضاع المقابر وتوفير الكرامة للموتى، قبل أن تتحول هذه المأساة إلى كارثة صحية تطال الأحياء أيضاً.
