سواءً كنت يمنيًا أو سبق لك و زرتها يومًا، فلاشك أنك ماتزال تحتفظ بمذاق السلتة ولسعاتها الملتهبة في فمك أينما ارتحلت.. كما لن تخلو حقيبة اليمني -وهو يغادر إلى أي بلد- من “الحرضة” ليضعها هناك في مطبخه، فتغدو “السلتة” رفيقةً لمائدته وسيدة لها.
غادر أسامة اليمن متجهًا نحو تونس للدراسة، لم يكن حريصًا على شيء يأخذه معه من اليمن غير: “الحرضة”.. منذ 2014 يحرص اسامة على أن يعد “السلتة” مرة كل أسبوع وغالًبا يوم الأحد كونه الإجازة الأسبوعية، فيستدعي أصدقاءه لتكتمل بهم المائدة ويصنع يومًا يمنيًا في تونس.
ولا يسمح أسامة لأحد أن يستخدم الحرضة خاصته، هو فقط من يعد بها السلتة، “أخاف أن يتعاملوا معها بدون حذر وتنكسر” قال لـ أنسم.
ليس اليمني وحسب من يظل متعلقًا بـ “السلتة” ومذاقها ويظل متلهفا لها، فهذه السيدة الأمريكية مارجوري رانسوم -وهي خبيرة وباحثة في الفضة اليمنية- غادرت اليمن منذ عشر سنوات من زيارتها الاخيرة، تقول لـ أنسم من مقر اقامتها بواشنطن: “حسرتي وأسفي الوحيدين الآن: أنني لم أعد أستطيع السفر إلى اليمن، وبسبب جائحة كوفيد-19، لا أستطيع حتى الخروج إلى المطعم اليمني المفضل لدي لتناول وجبة السلتة في الإناء الحجري (الحرضة)”.
تتذكر رانسوم زياراتها الثلاث إلى اليمن: مطلع الستنيات ومنتصف السبعينيات في مهمتين دبلوماسيتين وفي 2004 كانت في زيارة بحثية تتعقب الفضة وتقول لـ أنسم: ” في صنعاء كنت آخذ وعائي الحجري الثقيل (الحرضة) ظهيرة الجمعة إلى باب السبح والوقوف في طابور لشراء أفضل سلتة في المدينة، فيأخذ الرجال وعائي ويمررونه بينهم.. كان يجب عليَّ أن أقول للطاهي ماذا أريد: حلبة، بامية، فحسة لحم، رز وبسباس، بعدها أذهب لبائعات الخبز (الملوج) الذي تصنعه النساء من الذرة داخل أفران الحطب”.
المائدة الصنعانية
ماتزال السلتة تتربع عرش المائدة الصنعانية وتُعرف بـ “الحلبة” وبدونها تكون المائدة الصنعانية غير مكتملة، لكنها لم تعد حكرًا على صنعاء فقد ذاع صيتها لتغدو وجبة ذات شعبية تحظى بشهرة تخطت موطنها الأصلي” صنعاء” لتتسيد الموائد اليمنية في كل المحافظات، حتى الأجانب الذين يصلون اليمن لا يستطيعون مقاومة نداءات “السلتة” لهم، ليعودوا لبلدانهم ومذاقها ولسعة حرارتها ماتزال في أفواههم ليتحدثوا عنها بشغف.
ولا تكون وجبة “الحلبة” إلا في “الحرضة” التي تُدعى أيضًا بـ المقلى الصعدي (نسبة إلى مدينة صعدة) وهو إناء حجري يحتفظ بالحرارة لوقت طويل ولا يخلو منه أي منزل في اليمن.
وشعبيًا، طغت تسمية “سلتة” على الاسم الذي ما يزال يتردد في البيت الصنعاني حتى اليوم: حلبة.. لكن من أين جاءت تسمية “سلتة”؟.
يعتقد البعض أن وجبة “الحلبة/السلتة” قد جاءت إلى اليمن مع الأتراك -أثناء احتلالهم اليمن- وهو اعتقاد خاطئ بحسب أمة الرزاق جحاف -المديرة السابقة لبيت التراث الصنعاني- “الحقيقة أن ما جعل هذا الاعتقاد سائدًا هو كلمة “سلتة” التي يستخدمها الأتراك (يقال أيضًا أنها كلمة شامية) وهو ما جعل الشك يتسرب إلي أيضًا في البداية، لكن بعد البحث مع بعض الأتراك الذين التقيت بهم في تركيا عرفت أن كلمة (سلْت) في اللغة التركية ليست إسم ولكنها فعل وتعني أضافة بقايا أكل موجود في طبق إلى طبق آخر أو تنظيف الطبق مما فيه ولهذا أيضًا دخلت في اللهجة الصنعانية فيقال: اسلته، بمعنى نظفه أو أنقل ما فيه ويقال مثلًا (اسلت ذيه لذيه) أي أضف إليه”.
وتوضح جحاف في منشور لها على الفيس بوك أنه مع الاحتلال العثماني أُدخلت بعض الأطباق الجديدة للمائدة الصنعانية مثل “المحشي” الذي ما يزال أهل صنعاء يسمونه “طُلمه” وهي تسمية تركية وكذلك الكباب، “وفي المقابل حدث تطوير في مكونات “الحلبة الصنعانية” حيث أصبح يضاف إليها أو يُسلت لها ما يتبقى في الصحون التي قدمت قبلها وهي غالبًا الرز أو الطبيخ وكبيبات اللحم المفروم إضافة للمرق وهكذا تحول اسمها من حلبة إلى سلتة نسبة للفعل كما ذكرت سابقًا”.
تاريخ الحلبة
تقول المديرة السابقة لبيت التراث الصنعاني، أنه جرت العادة عن العرب وغيرهم على استخدام بذور الحلبة كمشروب صحي “بارد أو ساخن” غني بالفيتامينات، “لكن لا أحد غيرُ اليمنيين يستخدم بذور الحلبة بهذه الطريقة التي يتميزون بها عن غيرهم”.
وأشارت إلى أنه يتم نقع مسحوق بذور الحلبة المجفف بالماء من نصف ساعة إلى ساعة، ثم يتم خضب الحلبة بملعقة خشبية حتى تتكاثر وتتحول إلى مادة بيضاء تشبة الكريمة، “لكنك لن تحصل على ذلك دون أن تستخدم “عود الحلبة” مع المسحوق المنقوع وهو السر الذي يمنح الحلبة بريقها لتنتفخ وتزول مرارتها ويمنحها نكهة عطرية”.
وتساءلت: ” تُرى، كم من الوقت احتاجه اليمنيون حتى تراكمت لديهم كل هذه الخبرات في كيفية إعداد الحلبة والوصول لهذا الخليط؟ وكم من الأعواد والأشياء قد تم تجربتها لكي يتأكدوا أن هذا العود (عود الحلبة) دون غيره كفيل بإزالة المرارة؟.. لا شك أنها قرون طويلة”.
واستعرضت جحاف في منشورها في الفيس بوك كيف يستخدم اليمنيون الحلبة منذ ما قبل دخول الأتراك، “روى لي الكثير من كبار السن بصنعاء القديمة أن الأتراك حينما احتلوا صنعاء كان أهل صنعاء يتناولون الحلبه بنفس اسمها (حلبه) وبطرق مختلفة: الحبة البيضاء ويقصدون بها فتة الحلبة وهي إضافة الماء الساخن الى خليط الحلبة ورشها فوق فتة خبز الملوج مع إضافة السمن إليها وبذور الحبة السوداء، وهذه الأكلة كانوا يفضلون تناولها في سحور رمضان بسبب ما تحققه للجسم من عدم الإحساس بالجوع والعطش خلال فترة الصيام”.
أما النوع الثاني فهو “الحلبة الحامضة” وهو خليط الحلبة المخفوق -بعد النقع- مضاف إليه قليل من الخل البلدي الذي تفنن الصنعانيون في صناعته من زبيب العنب الذي اشتهرت اليمن بإنتاجه وغالبًا ما تقدم هذه الحلبة في فطور رمضان ملازمة لـ “الشفوت” (رقائق خيز اللحوح مغموس باللبن المهزوز).
لكن يعتبر النوع الثالث لاستخدام الحلبة هو الأشهر: “الحلبة بالمرق”.. وبحسب جحاف، فإنه بعد خضب مسحوق الحلبة يتم طحن أو سحق بعض أوراق نبات الكراث -أو ما يسمى في صنعاء: البيعه- مع قليل من الثوم والملح والزعتر والبسباس الأخضر (الفلفل) ثم يمزج مع الحلبة قبل إضافتها للمرق الذي يفضل أن يكون مرق عجل أو بقري ويضاف إليها قطعة من البطاطا المسلوقة مع المرق، “هكذا كان الصنعانيون يتناولون الحلبة التي باتت تعرف الآن بـ السلتة”.
منتصف تسعينيات القرن الماضي حدث تطور آخر لـ “السلتة/الحلبة” ونتجت وجبة جديدة منها تسمى: “الفحسة”.. وهي وجبة تعتمد على لحم العجول فقط، إذا يتم هرسه “فَحْسُه” في الحرضة الساخنة ويضاف إليه المرق ثم يضاف خليط “الحلبة”.. وباتت السلتة والفحسة وجبتان مشهورتان وفُتحت لها المطاعم، ليس في عموم المحافظات اليمنية وحسب، بل في دول الخليج والعالم كلمسة يمنية ذات خصوصية فريدة وهي تغلي داخل الحرضة وكأنها بركان هائج، لا تُخاف لسعاته.
المصدر: البوابة اليمنية للصحافة الإنسانية "أنسم "