كشفت شهادات مروعة لنازحين من مدينة الفاشر السودانية عن مأساة إنسانية خفية تفوق ما تصوره التقارير الإعلامية، حيث فر أكثر من 65 ألف شخص من المدينة بعد سقوطها في أيدي قوات الدعم السريع، تاركين وراءهم حكايات أليمة من القتل والتشريد والانتهاكات العنصرية التي طالت المدنيين العزل.
وسط هذه الفوضى الإنسانية، نفت مصادر رفيعة في الجيش السوداني لبي بي سي صحة الأنباء المتداولة حول موافقة الطرفين المتحاربين على هدنة إنسانية لمدة ثلاثة أشهر، مؤكدة أن الجيش تلقى مسودة اتفاق من الوسطاء دون الموافقة عليها حتى اللحظة الراهنة.
صرخت كلثوم أحمد، إحدى النازحات من الفاشر، وهي تحكي معاناتها باكية: "في يوم الجمعة فقدت أعز الناس. فقدت أولادي. وتشردنا في الشوارع". وأضافت في حديثها لبرنامج "للسودان سلام" عبر الخدمة الإذاعية الطارئة لبي بي سي عربي أن قوات الدعم السريع عند دخولها المدينة "قتلوا الناس" وأن "نصف الناس ماتوا في الشارع".
وكشفت كلثوم عن تفاصيل صادمة حول المعاملة التي تعرضت لها النساء النازحات، موضحة أنهن خضعن لتفتيش دقيق "من فوق وتحت" بحسب تعبيرها، مضيفة: "لم يتركوا لنا شيئاً ولا حتى ملابسنا. أذاقونا الجوع والعطش ونحن بجوار الجثث في الشارع". وأوضحت أن قوات الدعم السريع كانت تضرب المصابين في الشوارع، وأن رحلة النزوح استمرت أربعة أيام مات خلالها من مات منهم في الطريق.
أما زهرة، الأم لخمسة أطفال التي لجأت إلى مدينة طويلة القريبة، فقد روت لوكالة فرانس برس كيف "أخذ مقاتلو قوات الدعم السريع ابنيها" اللذين يبلغان من العمر 16 و20 عاماً. وأضافت أنهم "أطلقوا سراح الأصغر أخيراً، لكنني لا أعرف إذا كان محمد [ابنها الأكبر] حياً أم ميتاً".
في سياق مماثل، اعتقلت قوات الدعم السريع عباس الصادق، المحاضر بجامعة الفاشر، قبل أن تطلق سراحه بعد تحويل مبلغ مالي. وفي مقطع فيديو توثقت منه وكالة فرانس برس، سُمع صادق وهو يتوسل إلى زميل له قائلاً: "هذا المال يساوي حياتي، وقد منحوني مهلة قصيرة - 10 دقائق فقط".
وكشف سيلفان بينيكود، منسق منظمة أطباء بلا حدود في الطويلة، أن العديد ممن فروا من الفاشر قالوا إنهم استُهدفوا بسبب لون بشرتهم. وأوضح أن أكثر ما أصابه بالرعب "عندما سمعت كيف كانوا يُطاردون وهم يفرون لإنقاذ حياتهم؛ يُهاجمون لمجرد كونهم سود البشرة". وأضاف لوكالة فرانس برس: "الجميع يبحث عن أحد ما".
حسين، الشاب من بلدة على أطراف الفاشر، كان "من بين مئات الرجال والفتيان الذين احتجزتهم قوات الدعم". وروى كيف ألقي القبض عليه واقتيد مع نحو 200 شاب آخر في قرني على بُعد 25 كيلومتراً شمال غرب الفاشر بعد محاولتهم الفرار. وقال حسين: "ضربونا بالعصيّ ووصفونا بالعبيد"، مضيفاً أنه ورفاقه المعتقلين لم يُمنحوا سوى وجبة واحدة يومياً.
وأوضح حسين: "حبسونا داخل مبنى مدرسة. بعد أربعة أيام، أطلقوا سراح بعضنا، لكنهم كانوا يُدخلون أناساً جدداً كل يوم". هذه الشهادات تكشف عن نمط منهجي من الانتهاكات العنصرية في منطقة تعد موطناً لحوالي 80 قبيلة ومجموعة قبلية متنوعة، تشمل مجتمعات زراعية مستقرة وأخرى بدوية تعتمد على الرعي.
وبينما تتواصل معاناة النازحين، جدّد البابا فرانسيس دعوته إلى وقف إطلاق النار و"فتح ممرات إنسانية عاجلة" في السودان، مندّداً بـ"المعاناة غير المقبولة" التي يتكبّدها شعب "أنهكته شهور طويلة من النزاع". وقال البابا خلال عظته الأسبوعية: "أتابع بحزن عميق الأخبار المأساوية الواردة من السودان، ولا سيّما من مدينة الفاشر في ولاية شمال دارفور المنكوبة".
وأضاف البابا أنّ "أعمال العنف العمياء ضد النساء والأطفال، والهجمات على المدنيين العزّل، والعراقيل الخطيرة أمام العمل الإنساني، تتسبّب في معاناة لا تُطاق لشعب أنهكته شهور طويلة من النزاع". هذه الدعوات الدولية تأتي وسط تقارير مؤكدة من مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة تفيد بأن مئات المدنيين والمقاتلين العزّل قتلوا أواخر الشهر الماضي عندما سيطرت قوات الدعم السريع على المدينة.
سقطت مدينة الفاشر، التي كان يعيش فيها حوالي 260 ألف نسمة قبل الهجوم الأخير، بعد حصار دام 18 شهراً، مما دفع عشرات الآلاف إلى الفرار. ووفقاً للأمم المتحدة، فإن أكثر من 65 ألفاً فروا من المدينة، منهم حوالي 5 آلاف نزحوا إلى مدينة طويلة القريبة، بينما لا يزال عشرات الآلاف عالقين في المدينة تحت ظروف إنسانية مأساوية.
وثقت لجنة حماية الصحفيين سلسلة من الانتهاكات التي ارتكبتها قوات الدعم السريع في جميع أنحاء السودان، بما في ذلك "قتل ما لا يقل عن 14 صحفياً، واغتصاب صحفيات، وتحويل مكاتب وسائل الإعلام إلى مراكز احتجاز، ومصادرة المنازل، واختطاف صحفيين واحتجازهم مقابل فدية". وأشارت اللجنة إلى أن "العديد من هذه الانتهاكات تم تصويرها وتداولها من قبل الجناة أنفسهم".
هذه التقارير الجديدة تثير مخاوف جدية من عودة ارتكاب الفظائع في دارفور، المنطقة التي شهدت صراعات دموية منذ عام 2003 عندما استعانت قوات الحكومة السودانية بميليشيات عرفت باسم الجنجويد ضد الحركات المتمردة. وكانت النتيجة أن تكبدت دارفور خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، حيث لقي نحو 300 ألف شخص مصرعهم، فيما تم تشريد الملايين ولجأ نحو 400 ألف شخص منهم إلى مخيمات في دولة تشاد المجاورة.
بينما تنفي المصادر العسكرية السودانية وجود اتفاق نهائي للهدنة، أكد مستشار الرئيس الأمريكي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا مسعد بولص أن التفاوض ما زال مستمراً بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع حول مقترح الهدنة، مبيناً أن المفاوضات وصلت إلى مراحل متقدمة. وكانت وسائل إعلام محلية قد نشرت تقارير تؤكد فيها "قبول قائدي الجيش وقوات الدعم السريع بمقترح الهدنة، وأنهما بصدد التواصل مع حلفائهما"، لكن هذه التقارير تبقى غير مؤكدة في ظل استمرار المعاناة الإنسانية الفادحة في البلاد.