في لحظة تاريخية تهتز لها القلوب، تحتفل سوريا اليوم بأول ذكرى لسقوط النظام بعد 24 عاماً من الظلام الدامس، بينما يخيم شبح 100 ألف مفقود على أجواء الفرحة. أطفال ولدوا في المنفى يرون وطنهم لأول مرة، وأجداد يحتضنون أحفاداً لم يشهدوا ولادتهم. لكن وسط هذا الانتصار التاريخي، تبقى آلاف الأسئلة معلقة في الهواء: أين المخفيون قسراً؟ ومتى ستلتئم جراح الماضي؟
في ساحة الأمويين بدمشق، تتعالى هتافات الفرح من حناجر تذوقت طعم الحرية بعد عقود من القهر. أم محمد، 65 عاماً، تقف وسط الاحتفالات وعيناها تبحثان بين الوجوه عن ابنها المفقود منذ 8 سنوات. تقول بصوت مخنوق: "أفرح للوطن، لكن قلبي ينزف لولدي المغيب." إحصائيات صادمة تكشف أن 13 مليون سوري عاشوا مأساة النزوح، في أكبر أزمة لاجئين شهدها التاريخ الحديث. اللافتات الضخمة تعلن "انتهت الحقبة السوداء وأشرق وجه البلاد"، بينما الألعاب النارية تضيء سماء دمشق كما لم تضئ منذ عقود.
خلف هذه الاحتفالات قصة ملحمية استمرت عقداً كاملاً من الصمود والتضحيات. الثورة التي بدأت كحلم بعيد المنال، تحولت إلى حقيقة راسخة بفضل إرادة شعب لم ينكسر رغم كل المعاناة. د. سامر الحقوقي، خبير الشؤون السورية، يؤكد: "ما حدث في سوريا يشبه سقوط جدار برلين، لحظة فاصلة بين عصرين." التغيرات الجيوسياسية وضعف الدعم الخارجي للنظام ساهما في تسريع النهاية، لكن العامل الحاسم كان الإرادة الشعبية التي لم تنكسر. مقارنة بثورات الربيع العربي الأخرى، النموذج السوري يقدم دروساً مهمة حول قوة الصبر والمثابرة.
أحمد العائد، 35 عاماً، عاد بعد 12 سنة نفي ليجد بلده حراً أخيراً، يقول وهو يقبل تراب دمشق: "هذا التراب أغلى من الذهب." عودة ملايين السوريين تعيد تشكيل الخريطة الديموغرافية للبلاد، وتبعث الأمل في نهضة اقتصادية واجتماعية شاملة. حملات التبرع بالدم تحت شعار "باسم التحرير، دم يُهدى وذكر يُنير" تعكس روح التضامن الجديدة. لكن التحديات جسيمة: إعادة الإعمار تحتاج مليارات الدولارات، والمصالحة الوطنية تتطلب شفاء جراح عميقة. فاطمة الدمشقية، التي شهدت دخول الثوار، تصف المشهد: "كان كالحلم، لم أصدق أن الكابوس انتهى فعلاً."
سوريا اليوم تقف على مفترق طرق تاريخي، تحتفل بانتصارها على الظلم بينما تواجه تحدي بناء مستقبل أفضل. طريق إعادة الإعمار طويل وشاق، لكن الإرادة الشعبية التي أسقطت ديكتاتورية 24 سنة قادرة على بناء سوريا الجديدة. ملف المفقودين قسراً يبقى الجرح الأعمق الذي يحتاج لشفاء، والعدالة الانتقالية ضرورة لا غنى عنها. السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل ستنجح سوريا الجديدة في تحويل ألم الماضي إلى قوة دافعة نحو مستقبل أكثر إشراقاً؟