في لحظة تاريخية انتظرها ملايين السودانيين لأكثر من 18 شهراً، أعلنت القنصلية السعودية في بورتسودان استئناف إصدار تأشيرات العمل، لتحول حلم العمل في المملكة من كابوس مالي بقيمة 3000 دولار إلى فرصة حقيقية بتكلفة لا تتجاوز عُشر هذا المبلغ. الآلاف من الأسر السودانية المتضررة من الحرب يشهدون اليوم انفراجة قد تنقذ مستقبلهم من الانهيار الاقتصادي، بينما تواجه 30 وكالة سفر معتمدة فقط تحدياً جبارً في تلبية احتياجات جيش من المنتظرين.
أحمد محمد، عامل البناء البالغ من العمر 35 عاماً، يقف في طابور طويل أمام إحدى الوكالات المعتمدة وعيناه تشعان بالأمل بعد سنوات من اليأس: "بعت بيتي العام الماضي لأدفع 3000 دولار للسفر عبر إثيوبيا، واليوم أرى الفرصة أمامي بثلث التكلفة". خلف أحمد، تصطف مئات الوجوه المتعبة التي تحمل ملفات صفراء متراكمة وآمالاً متجددة، بينما تختلط رائحة البحر في بورتسودان مع عرق المنتظرين وأصوات الترقب المختلطة بالقلق. د. فاطمة عبدالله، مديرة إحدى الوكالات المعتمدة، تعمل 16 ساعة يومياً وتؤكد: "نشهد إقبالاً كسيل جارف بعد انهيار سد اليأس".
هذا القرار السعودي لم يأتِ من فراغ، بل جاء نتيجة ضغوط إنسانية هائلة خلفتها الحرب المدمرة التي اندلعت في منتصف 2023، والتي أجبرت ملايين السودانيين على النزوح وفقدان مصادر دخلهم. قبل الحرب، كانت مئات الوكالات تقدم هذه الخدمات، أما اليوم فإن تقليص العدد إلى 30 وكالة فقط يشبه تحويل سوق مدينة كاملة إلى 30 محلاً لتلبية احتياجات الجميع. د. محمد الأمين، خبير العلاقات الدولية، يصف هذا التطور بقوله: "إنها خطوة تعكس عمق الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، مثل إعادة فتح طريق الحرير القديم بين الشعوب العربية"، متوقعاً تحسناً تدريجياً في الخدمات القنصلية مع استقرار الأوضاع.
التأثير على الحياة اليومية للسودانيين واضح كوضوح الشمس، فمريم عثمان، الأم لخمسة أطفال، تشاركنا فرحتها قائلة: "زوجي ينتظر هذه اللحظة منذ سنتين، وأطفالي يسألونني كل يوم متى سيعود أباهم للعمل ويرسل لنا النقود". المتوقع أن تشهد الأشهر القادمة تدفق ملايين الدولارات كتحويلات تنعش الاقتصاد السوداني المنهك, وأن تتحسن أحوال آلاف الأسر التي تضررت من الحرب. لكن التحدي الأكبر يكمن في قدرة البنية التحتية المحدودة في بورتسودان على استيعاب هذا الإقبال الجماهيري، مع مطالبات متزايدة بزيادة عدد الوكالات المعتمدة وتطوير خطوط بحرية مباشرة لتسهيل رحلة العمالة.
بينما تعود أبواب الأمل للانفتاح تدريجياً، وتتحول قصص المعاناة إلى حكايات انبعاث جديدة، يبقى السؤال الأهم: هل ستستطيع 30 وكالة فقط تحمل ثقل آمال وأحلام ملايين السودانيين؟ الإجابة تكمن في قدرة النظام الجديد على التطور والتوسع، وفي استمرار الدعم السعودي الذي حول كابوساً مالياً إلى حلم قابل للتحقيق.