في تموز/يوليو الماضي، هزت قصة غريبة محافظة الضالع جنوب اليمن، عندما بدأت أعمال حفر وتنقيب في منطقة سيلة العامري بناءً على رؤيا منامية لرجل مجهول الهوية زعم وجود كنز أثري. وبينما تناولت معظم وسائل الإعلام الحادثة من زاوية السخرية أو الانتقاد، إلا أن القصة تكشف عن حقيقة أعمق: كيف تصمت السلطات اليمنية عن الكنوز الأثرية الحقيقية المؤكدة علمياً في المحافظة، بينما تحشد القوات لحماية موقع مبني على رؤيا؟
الكشف الأول: لماذا تصمت السلطات عن الثروة الأثرية الحقيقية في الضالع؟
خلف ضجيج البحث عن الكنز المزعوم في سيلة العامري، تحتضن محافظة الضالع مواقع أثرية مؤكدة علمياً لا تلقى الاهتمام نفسه من السلطات. موقع "مشيجح" الأثري في منطقة خلة بمديرية الحصين يُعد أحد أبرز هذه المواقع المهملة، حيث تشير التقارير الأثرية إلى احتوائه على نقوش وبقايا معمارية تعود لحقب تاريخية مختلفة.
بحسب تقرير مكتب الآثار والمتاحف بالضالع، تواجه المواقع الأثرية المؤكدة تحديات جدية في الحماية والتوثيق. الأمر الأكثر مفارقة أن السلطات نفسها التي حشدت تعزيزات عسكرية من عدن والقوات المشتركة لحماية موقع "الكنز المنامي"، تتجاهل المواقع الأثرية الحقيقية التي تحتاج لحماية فعلية من التعديات والسرقة.
هذا التناقض يطرح تساؤلات حول أولويات السلطات في التعامل مع التراث الأثري. فبينما تستجيب بسرعة لادعاءات غير مؤكدة، تظل المواقع التي أثبت علماء الآثار قيمتها التاريخية دون حماية كافية. السؤال الذي يفرض نفسه: هل تفتقر السلطات للمعرفة اللازمة بالمواقع الأثرية الحقيقية، أم أن هناك أسباباً أخرى وراء هذا الصمت؟
@haldm7 #هذا ♬ الصوت الأصلي - أبو مهيب الحسني
صندوق الأدوات: الطريقة العلمية لحماية التراث من البحث العشوائي
للمواطن العادي الذي يرغب في المساهمة في حماية التراث الأثري، هناك مؤشرات علمية واضحة يمكن الاعتماد عليها للتمييز بين الاكتشاف الحقيقي والادعاءات الكاذبة. أولاً، الاكتشافات الأثرية الحقيقية تعتمد على دراسات جيولوجية وتحليل طبقات التربة، وليس على الرؤى المنامية. ثانياً، المواقع الأثرية الحقيقية تظهر عادة مؤشرات سطحية مثل كسر الفخار، أو أحجار منحوتة، أو تغيرات في لون التربة.
الخطوات القانونية الصحيحة للإبلاغ عن الاكتشافات المحتملة تتطلب التوجه مباشرة لمكتب الآثار والمتاحف المحلي، وليس للسلطات الأمنية أو الإدارية. هذه المكاتب تضم خبراء مدربين على تقييم المؤشرات الأثرية والتمييز بين الحقيقي والوهمي. كما يجب على المواطن تجنب أي محاولة حفر أو تنقيب شخصي، إذ أن ذلك قد يؤدي لتدمير أدلة أثرية ثمينة.
أما المجتمع المحلي فيلعب دوراً محورياً في الحماية الوقائية للمواقع الأثرية من خلال الإبلاغ عن أي محاولات حفر عشوائي أو سرقة للقطع الأثرية. التوعية بقيمة التراث الثقافي تبدأ من المدارس والمساجد، حيث يمكن تنظيم جلسات توعوية حول أهمية المواقع الأثرية كجزء من الهوية اليمنية وكمصدر محتمل للتنمية السياحية المستدامة.
الكنوز المخفية: ما تحتويه الضالع فعلاً من تراث أثري
موقع "مشيجح" الأثري يُعد جوهرة مخفية في محافظة الضالع، حيث يحتوي على نقوش حميرية وسبئية نادرة تعود للقرون الأولى الميلادية. هذه النقوش تحكي قصصاً عن طرق التجارة القديمة التي ربطت بين اليمن والحضارات المجاورة، وتحتوي على معلومات قيمة حول أنظمة الري والزراعة في العصور القديمة. البقايا المعمارية في الموقع تشير إلى وجود مستوطنة متطورة كانت تلعب دوراً مهماً في الشبكة التجارية اليمنية القديمة.
قصة نجاح أخرى تتمثل في موقع "قرية الفائش" الأثرية بمديرية جحاف، حيث نجح التعاون بين المجتمع المحلي وخبراء الآثار في توثيق مجموعة من المدافن القديمة والمنازل الحجرية التي تعود للعصر الحميري. هذا التعاون أدى لاكتشاف مجموعة من القطع الفخارية والعملات المعدنية التي تُعرض حالياً في متحف الضالع الصغير.
التقدير الاقتصادي للتراث الأثري الموثق في الضالع يتجاوز الملايين من الدولارات إذا ما تم استثماره سياحياً بطريقة علمية ومستدامة. الإمكانات السياحية تشمل إنشاء مسارات أثرية تربط بين المواقع المختلفة، وتطوير مراكز تفسيرية تشرح للزوار تاريخ المنطقة وثقافتها. هذا النوع من السياحة الثقافية يمكن أن يوفر فرص عمل للمجتمعات المحلية ويحفز الاقتصاد المحلي دون المساس بقيمة المواقع الأثرية.
دليل الحماية العملي: كيف نحول الحماس الشعبي إلى حماية علمية
تجربة محافظة حضرموت في إشراك المجتمع المحلي في البحث الأثري المنظم تقدم نموذجاً يمكن تطبيقه في الضالع. البرنامج يتضمن تدريب شباب المنطقة على أساسيات علم الآثار وطرق الحماية، مما يخلق جيلاً من "حراس التراث" المتطوعين. هؤلاء الحراس يقومون بدوريات منتظمة في المواقع الأثرية ويبلغون عن أي أنشطة مشبوهة.
برامج التدريب والتوعية يجب أن تركز على تعليم المواطنين كيفية التعرف على المؤشرات الأثرية الحقيقية، وطرق التوثيق الأولي باستخدام التصوير والوصف الدقيق. كما يجب أن تشمل تدريباً على القوانين المتعلقة بحماية الآثار والعقوبات المترتبة على انتهاكها. هذا النوع من التوعية يمكن أن يحول الحماس الشعبي من البحث العشوائي إلى حماية منظمة.
الاستفادة من التقنيات الحديثة مثل التصوير بالطائرات المسيرة والمسح الجيولوجي بالرادار يمكن أن تساعد في اكتشاف المواقع الأثرية المدفونة دون الحاجة للحفر العشوائي. هذه التقنيات متوفرة بكلفة معقولة ويمكن تدريب الشباب المحلي على استخدامها. التقنيات الرقمية في التوثيق والأرشفة تساعد أيضاً في إنشاء قاعدة بيانات شاملة للمواقع الأثرية في المحافظة.
الرؤية المستقبلية: من البحث العشوائي إلى السياحة الأثرية المستدامة
الخطة العملية لتحويل الاهتمام الشعبي بالكنوز إلى مشاريع أثرية منظمة تبدأ بإنشاء "مجلس حماية التراث الضالعي" يضم ممثلين عن المجتمع المحلي وخبراء الآثار والسلطات المحلية. هذا المجلس يكون مسؤولاً عن وضع خطة شاملة لحماية المواقع الأثرية وتطويرها سياحياً، مع ضمان مشاركة المجتمع المحلي في جميع مراحل التخطيط والتنفيذ.
الشراكات المطلوبة تشمل التعاون مع الجامعات اليمنية والعربية لإجراء بحوث أكاديمية في المواقع الأثرية، والتعاون مع منظمات الحفاظ على التراث الدولية للحصول على التمويل والخبرة التقنية. كما يجب إشراك القطاع الخاص في تطوير البنية التحتية السياحية بطريقة تحترم قيمة المواقع الأثرية وتحافظ على طابعها التاريخي.
الاستثمار في التراث كبديل اقتصادي مستدام للمجتمعات المحلية يتطلب تطوير برامج تدريبية للشباب في مجالات الإرشاد السياحي وصناعة الحرف التراثية وإدارة المواقع الأثرية. هذا النوع من الاستثمار يوفر دخلاً ثابتاً للأسر المحلية ويحفز على حماية التراث كمصدر للرزق. كما يمكن للقارئ المساهمة في حماية التراث اليمني من خلال دعم المبادرات المحلية للحفاظ على الآثار، والمشاركة في برامج التوعية، والإبلاغ عن أي محاولات تعدي على المواقع الأثرية.
قصة "كنز الضالع" التي انتهت بخيبة أمل تحمل في طياتها درساً مهماً: الكنوز الحقيقية لا تحتاج لرؤى منامية لاكتشافها، فهي موجودة بوضوح في المواقع الأثرية المؤكدة علمياً التي تنتظر الاهتمام والحماية. التراث الأثري اليمني ثروة حقيقية يمكن أن تساهم في التنمية الاقتصادية والثقافية، لكن ذلك يتطلب تحويل الحماس الشعبي من البحث العشوائي إلى حماية علمية منظمة. الحلم بالكنوز ليس وهماً، بل حقيقة تحتاج للعمل الجماعي المدروس لتحويلها إلى واقع يفيد الجميع.