كان من المفترض أن الفترة التالية لتبرئة نظام مبارك وإدانة ثورة يناير، هي اللحظة النموذجية لتحقيق حالة توافق وطني واصطفاف ثوري غائبة، إذ أدركت كل القوى والتيارات الشريكة في ثورة يناير أن الغبار انقشع والغيوم زالت، وبدت تفاصيل الصورة واضحة، تمام الوضوح، ومضمونها أن دولة مبارك عادت بثورة مضادة عسكرية.
وبالفعل، تعالت الأصوات، تعلن أن التحرك ينبغي أن يتأسس على أن اليوم التاسع عشر من أيام ثورة المصريين قد جاء، وعلى كل المنتسبين لهذا الحدث التاريخي أن يسموا فوق الخلافات الحزبية الضيقة، ويواصلوا نضالهم الثوري بالكيمياء المدهشة التي حددت شكل التفاعل طوال 18 يوماً، بدأت بالخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2011، وتوقفت يوم 11 فبراير/ شباط بتخلي حسني مبارك عن منصبه، وتكليف مجلسه العسكري حكم البلاد.
غير أن أسابيع كرت سريعاً منذ الحكم بإعادة رموز نظام مبارك إلى مقاعدهم، فيما يبدو أن فورة الغضب الثوري قد تلاشت شيئاً فشيئاً، حتى بدا معشر الثوار المحترفين وكأنهم مجموعة من البيزنطيين، يتبادلون أنخاب الجدل العقيم، ويتقاتلون على جلد نمر لم يتم اصطياده بعد، ولا يبدو أن هناك من يمتلك الجدية الكاملة في اصطياده، إلا هؤلاء الذين يزرعون الشوارع والميادين غضباً وثورةً على مدار عام ونصف العام، منذ انقلاب عبد الفتاح السيسي على الحكم، واختطافه السلطة.
يتعارك الثوار و"الثورجيون" وسماسرة الحراك الثوري، الآن، حول قضايا عدمية، كنوع من تمضية الوقت أحيانا، وهروباً من العمل الحقيقي على أرض الواقع، من ناحية أخرى، إذ بدلاً من أن يكون الجهد كله منصباً على تفعيل حالة الاصطفاف والتوحد من جديد، يختطف بعضهم الحوار إلى مراعي الكلام الفسيحة، ليقول لك علينا أن نتفق أولاً على شكل الدولة في فترة ما بعد الانقلاب، ويثير غباراً كثيفاً حول ضمانات مدنية الدولة وعلمانيتها، وكأن الانقلاب قد انقشع بالفعل، ولم يعد أمامنا من موضوع للنضال والحوار سوى الاشتباك حول الثنائية العبثية: الدولة الدينية والدولة العلمانية.
وظني أن هذا الاشتباك يقدم هدية مجانية لدولة العسكر في مصر، ولا يغيب عن الأذهان أن افتعال هذا الصراع وصناعة الفزع من هيمنة الدولة "الدينية الإخوانية الإرهابية" كانا الثغرة التي نفذ منها الجنرالات، للانقضاض على ما جاءت به ثورة يناير من ديمقراطية وليدة، ولعلك تذكر تلك القائمة الطويلة من منتجات آلة الدعاية السوداء التي راحت تدغدغ العواطف، باستخدام شبح الهوية والتخويف من ردة إلى عصور الظلام ومحاكم التفتيش، وتزويج الفتيات في سن التاسعة، ومنع المايوه البيكيني، وتحريم الفن وتجريم الإبداع.. إلى آخر هذه الكوابيس المصنوعة في ورش الانقلاب.
والنتيجة أن لا دولة مدنية قامت، ولا دولة دينية تحققت، بل هيمنت الدولة العسكرية وتحكمت في مفاصل البلاد ومصائر العباد، حتى صارت السماء تمطر جنرالات والأرض تنبت عسكرة، لتعود البلاد ستين عاماً إلى الوراء.
والمحزن في افتعال الجدل حول طبيعة الدولة، بعد سقوط الانقلاب، أنه لا يؤدي إلا إلى إطالة عمر النظام العسكري، ومنحه دعماً سخياً في مواجهة حراك شعبي حقيقي، يتجاوز بيزنطيات النخب التي ترفل في رفاهة الكلام ونعيم السفسطة، بينما هناك عشرات الآلاف من الثوار الحقيقيين، يواجهون جحيم القتل والقمع، في صمود نادر وإصرار واضح على استعادة ثورة يناير من مغتصبيها، من دون أن يلهوا أنفسهم في محاورات عقيمة عن شكل الدولة وملامحها.
إن كل الأطراف أمام فرصة نادرة للتوافق، في مواجهة اختبار تاريخي مصيري، هو الأصعب، وأزعم أن الجميع يحفظون عن ظهر قلب المآلات الكارثية للثورة، حين ابتلعوا طعم الترقيعات الدستورية في مارس / آذار 2011، وتناحروا كما فعل أهل داحس والغبراء، والنتيجة كما ترى الآن: دولة مبارك تتنافس على الغنائم، بينما الثوار كالأيتام على موائد اللئام، بعد أن تحول بعض رموزهم إلى طهاة متطوعين في مطابخ العسكر.