لم يكن الثوار بحاجة إلى التجرد، والترفع عن المعاتبات، وتبادل الاتهامات المعلّبة، كما هو الحال الآن، ولم يكن المجتمع المصري في احتياج إلى المحافظة على ما تبقى من حس إنساني، مثل هذه اللحظة.
لقد أتت حرائق الانقلاب على محصول الإنسانية، فأوجدت مجتمعاً مشوّهاً، صارت الكراهية فيه عملة رائجة، وسبيلاً للانتقام والصعود الاجتماعي، أحياناً.
ولقد كشفت اللحظة التالية لتبرئة حسني مبارك ونظامه، عن انقسام مجتمعي حادّ، من نوع جديد، حيث يغيب التصنيف السياسي، ويحضر الفرز الإنساني، فالمصريون باتوا معسكريْن، الأول يحاول الاستمساك بالفطرة الإنسانية السوية، والثاني لم تعد تعنيه، أصلاً، فكرة العدالة والإنسانية، إذ نجحت آلة الانقلاب في إعطاب آلة الإحساس بالظلم والألم مما يحدث، حيث بلغت الفظاظة حداً لم يعرفه مجتمع إنساني قط.
إن مصر لم تنم ليلة التعري مدفوع الأجر لمواطن من أتباع مبارك، في أحداث الاتحادية، إبان حكم الدكتور محمد مرسي، وأذكر أنني، في تلك الليلة البائسة، قلت إنه لو طلع النهار على وزير الداخلية في منصبه، يكون النظام كله بلا شرعية. صحيح أنه تبين، فيما بعد، أن ذلك "المسحول" كان يؤدي مشهداً مثيراً في سينما التحضير للانقلاب، وأن ما بينه وبين وزارة الداخلية كل الود وكل التعاون الوثيق، إلا أن قطاعاً واسعاً من المصريين اهتز من أعماقه ولفّه الحزن، وهو يشاهد الواقعة على مختلف الشاشات، بإخراج واحد تقريباً.
كان ذلك في الأيام الأخيرة، قبل إشعال عمارة ثورة يناير، تمهيداً لبناء أبراج الانقلاب، أما الآن فصار عادياً أن يتم اغتصاب طالبات في المعتقلات، وفي مدرعات الشرطة بعرض الطريق، من دون أن تهتزّ الضمائر الثورية المحترفة، وأن تبتر ساق طالبة صغيرة، اسمها أسماء جميل، على يد الشرطة، فلا تقوم قيامة بارونات التغريد على مواقع التواصل الاجتماعي، وأن يصبح الحكم بإعدام المئات ألذ من تناول المقرمشات، فلا ينتفض أحد ضد اغتيال العدالة.
وهذا هو الفارق بين أخلاق الثورة وأخلاق الانقلاب، وكما قلت في بدايات التصحر الإنساني عقب الثلاثين من يونيو، فإن ثورة يناير لم تستحل الدماء والمنشآت والممتلكات، ولم تتعامل مع أتباع مبارك، باعتبارهم احتلالاً، يجب تطهير مصر منه.. ثورة يناير لم تطرب لقتل مؤيدي النظام، ولم ترقص فرحاً فوق جثثهم، ولم تستحلّ دماءهم، أو تسترخصها، وتعتبرها بلا ثمن.
ثورة يناير واجهت بطش الشرطة، وتصدّت، وهي عزلاء، لكل آليات القتل والتنكيل بالهتاف والاصطفاف، ليس صحيحاً أنها اتخذت الحرق والقتل والعنف منهجاً لمقاومة أشرس منظومة أمنية، فرمت أجساد المتظاهرين بمدرعاتها، ونكلت بفتيات وشباب فى سراديب مظلمة وكهوف سفلية.
ثورة يناير جسدت أرقى تجليات الإنسانية المصرية، وقيم التحضر المحترمة، لم نسمع أن ثوار يناير رقصوا فوق جثة خصم لهم، أو مثلوا بها، ولم نعرف أن صوتاً منها خرج يستبيح روحاً مصرية، أو يستحل جسد إنسان.
ولكل ذلك يصبح من أوجه الخيانة لثورة يناير أن تستسلم فصائلها لروح الشماتة ورياح المعاتبات الصغيرة التي اندلعت عقب الحكم ببراءة مبارك، فالحاصل أن اللحظة باتت أكبر وأجل من أن تفسدها تلك المهارشات الصغيرة، خصوصاً مع استدعاء سلطات الانقلاب لميليشيات "المواطنين الشرفاء" لمحاربة بواكير تجمعات الاصطفاف الثوري التي بدأت، بعد أن أطلّت مومياء مبارك المتوحشة مجدداً.
لقد أخطأ الجميع سابقاً، لكن الخطأ سيصبح جريمة إذا استسلم شركاء الثورة للعبة "اعتذر أنت أولا"، هذا لغو لا يفيد أحداً إلا الخصوم الأوغاد.
"العربي الجديد"