كشفت الأسابيع القليلة الماضية هشاشة السلطة، التي أوصلت البلاد إلى مرحلة تهاوت فيها هياكل الدولة بفعل أفراد وأحزاب جشعة، وكان الأداء السياسي فاضحا بعجزه عن التعامل مع الواقع، وعدم قدرته على استشراف المستقبل، وخاملا في بذل الجهد لتحسين سلوكياته المتردية، لذلك لم يكن مفاجئا ولا مستغربا أن تصبح السلطة الحالية حبيسة المفاهيم والأساليب والسلوكيات نفسها التي كانت سمة عهد الرئيس السابق، وأن تستخدم نفس الشخوص والآليات، وصار واجبا طرح السؤال: ما الذي تحقق منذ رحل صالح؟
كان صالح يدير السلطة بعيدا عن المؤسسات الدستورية، مكتفيا بدائرة صغيرة من أقارب ومقربين ومستشارين ما زال أغلبهم متصدرا المشهد اليوم، وإنْ في مواقع مختلفة، وكانت طريقة صنع القرار تتخذ الطابع الشخصي المعتمد على الهوى والظرف الزمني الملتصق بالحدث الملح أو الحاجة الآنية، ولم يكن القرار يمر عبر دوائر تمحصه وتقدم المشورة والنصح الواجبين، وفي أغلب الأحوال كانت الأجهزة المعنية تفاجأ بقرارات دونما تفسير.
الواقع الحالي لم يختلف كثيرا.
كان الجميع يدرك مدى الوهن الذي أصاب عمل المؤسسات، والفساد الذي صار أمرا طبيعيا لا يستوجب المحاسبة والمساءلة، وصار الصمت والاكتفاء بالامتعاض على استحياء صفة مميزة للمحيطين بالرئيس السابق، إما لتورطهم أو ليأسهم من صلاح الأمور، لكن الناس توقعوا تغييرا في أسلوب وتفكير مكونات السلطة الجديدة مصاحبا للتحول الذي وقع في قمتها.. ولكن ما حدث منذ اليوم الأول لانتقال السلطة عبر «انتخابات» فبراير (شباط) 2012 الرئاسية كان صادما للناس، لأن الوجوه التي كانت تحيط بصالح وتشاركه الجزء الذي أتاحه لهم تشبثت بالسلطة تحت شعارات ثورية ووعود براقة ولكن بعباءات رثة، ومعها نشأت بسرعة خاطفة طبقة متجددة من المنافقين والمزايدين والمتزلفين، وبمرور وقت قصير اتضح أن نزرا يسيرا قد تبدل، وأن التغيير الحقيقي في أساليب الحكم لم يبدأ.
انتظر المواطنون أن يحمل ما سمي بـ«مؤتمر الحوار الوطني الشامل» الأمل، وأن يكون بوابة يدلف منها اليمن إلى بدايات تكوين الدولة بمفهومها الجاد والعصري.. وخلال الأشهر التي استنزفها المؤتمر الذي شارك فيه 565 عضوا مدفوعو الأجر، وبإشراف جمال بنعمر الذي أصبح اسمه مقرونا بكل سوء يقع في اليمن اليوم، بدأت عملية استعادة ملامح التسيير الفردي لشؤون الحكم، ولم يهتم أحد بضرورة إحداث النقلة الأولى لتفعيل الأجهزة المحيطة برأس الحكم، وكان رد المستشارين على كل منتقد لهذا الأداء بأن الوقت لا يسمح، وأن الظروف لا تساعد على البدء بتلك الخطوة الطبيعية الحاسمة والأهم في الظروف الاستثنائية، كما أن الذين تمرسوا على تبرير كل خطيئة كانوا دوما جاهزين للدفاع عن الممارسات وتبريرها، ليس اقتناعا بها ولكن خوفا من الابتعاد عن الأضواء وتجنبا لتعكير مزاج الحاكم وإفساد علاقتهم به.
سأتجاوز الحديث عن القضايا التي كان من الممكن أن تضع حدا فارقا بين العهدين وأن تؤسس لمرحلة مغايرة، لكني سأذكر أن المشاركين في إعداد الوثائق الخاصة بالعملية الانتقالية (المبادرة الخليجية والآلية التنفيذية المزمنة) أذعنوا لرفض تشكيل «لجنة تفسير المبادرة»، والتي كان من المفترض أن يكون عملها هو إبداء الرأي في كل قرار تتخذه السلطة الجديدة (الرئيس والحكومة مجتمعين)، لكنهم مرة أخرى قبلوا بالتغاضي عنها بحجج غير صالحة، وكانت مؤشرا خطيرا لضعفهم، وثبتت أسلوبا للحكم أوصلنا إلى من نحن عليه الآن.
لم تمر فترة طويلة حتى بدأ الضجر يسري في نفوس المواطنين لما عانوه من تدهور مستدام في كل الخدمات الأساسية وانهيار المنظومة الأمنية وتزايد معدلات الفساد، وأحالت السلطة الجديدة كل سوء في أدائها إلى «النظام السابق» في محاولة للتنصل من مشاركتها في كل مراحله بغثها وسمينها.. وصارت المعزوفة الإعلامية الجديدة التي أطلقها مبعوث الأمم المتحدة لا تتوقف عن الشكوى من النظام السابق ومحاولات عرقلة عملية الانتقال، وهو أمر أتصوره حقيقيا وواقعا معيشا، لكنه يفضح ضعف السلطة وعجزها عن تحقيق أي عمل إيجابي.
في ظل هذه الأوضاع وانشغال الوافدين الجدد في مواصلة حلب البقرة التي جف ضرعها خلال العقود الماضية، كان من الطبيعي أن تستغل القوى الجديدة هذا الواقع وتبدأ في التمدد شمالا عبر «أنصار الله - الحوثيين»، وكان بطء السلطة في تثبيت عملية الانتقال الفعلي للسلطة عاملا مثاليا مساعدا لبدء تحريك خطوط نفوذ «أنصار الله» حتى وصلوا إلى داخل العاصمة، وكنت أتمنى أن يتوقف نهمهم عند الحدود الجغرافية للمناطق التي ينتمي غالبية سكانها إلى المذهب الزيدي، وتحقيق رغبتهم في إعادة الخطوط التاريخية المعروفة باليمن الأعلى واليمن الأسفل التي انمحت بعد 26 سبتمبر (أيلول) 1962، لكنها ظلت راسخة في عقول الناس لظروف الاختلافات النفسية والاجتماعية والطبيعية بين اليمنيين.
كان مريبا قدر الاسترخاء الذي مارسته السلطة وكذا تصرفاتها إزاء الأحداث في شمال العاصمة، وسيظهر المدى الذي وصل إليه العبث بمقدرات البلاد وإنهاك جيشها، وأنا لا أحب حديث الخيانة في الفعل السياسي، ولا أرى تبسيط الأحداث والتحولات على الأرض بأنها تقف عند حد التحالف بين الحوثيين والرئيس السابق واتهامه بالضلوع في الأحداث، لأن الواقع يؤكد أيضا أن هذه السلطة مصابة بارتباك وتوهان يعيدان إلى الذاكرة مشاهد الأشهر التي سبقت سقوط حكم الرئيس السابق.
لقد تمادى «أنصار الله» في استفزازاتهم وزادت شهيتهم وشرعنت لهم السلطة تصرفاتهم وعبثهم، بما تدعيه من حياد هو في واقع الأمر تواطؤ أو في أفضل الأحوال عجز يجب أن تعترف به وأن تعلن فشلها في إدارة شؤون البلاد والعباد، وعلى «الحوثيين» استيعاب أن ما يرتكبونه اليوم من أعمال تشبه الغزوات يعيد إلى ذاكرة أبناء تعز وإب والبيضاء الزمن الذي كان البعض في اليمن الأعلى يراهم فيه سكان أرض خراج عليهم أن يدفعوا الجزية.
ينذر الواقع اليوم بتفتت كل أجزاء البلاد، ومن الحكمة العودة إلى الحق بدلا من التمادي في الخطأ، وبداية الطريق هي الاعتراف بأن اليمن الجديد لن يصنعه بنعمر بتخريجاته الساذجة ولا السفيرة البريطانية بتصريحاتها الكثيرة، فهما ليسا بقادرين على تجنيب البلاد هول الكارثة المحيقة بها.
كلمتي الأخير هنا هي الدهشة من توجه مجلس التعاون واستنجاده بمجلس الأمن، فهل يعني هذا التخلي عن واجبه الأخلاقي والإنساني والسياسي والأمني تجاه المواطن العادي؟.. فالكل يعلم أن الأمم المتحدة لم تنجد مظلوما ولم تمد يدها يوما لتنقذ غريقا.. اليمن اليوم بحاجة إلى تدخل سياسي قوي وحازم يعيد الأمور إلى نصابها ويعيد الطمأنينة إلى اليمنيين بأن بلادهم جزء من الجزيرة والخليج قولا وفعلا.. ما دون ذلك هو ما يتيح للغير التسلل إلى الفراغات التي تملأ الساحة اليمنية شمالا وجنوبا.
" الشرق الأوسط "