قبل شهرين من اقتحام الحوثيين العاصمة جرت محاولة بذلها الملك الراحل عبد الله بن عبدالعزيز، لمصالحة بين الرئيس علي عبد الله صالح واللواء علي محسن الأحمر... ففي يوليو(حزيران) 2014 وبعد أن أصبح يقيناً عند الدوائر الاستخباراتية أن الحوثيين لن يتوقفوا قبل الاستيلاء على العاصمة، وصل إلى صنعاء السفير السعودي السابق علي الحمدان واجتمع بالرئيسين عبد ربه منصور هادي وصالح واللواء علي محسن الأحمر، واقنع الجميع بأهمية التعاون لمواجهة الخطر الداهم، وبالفعل التقى صالح ومحسن بحضور هادي في جامع الصالح لمناسبة صلاة العيد، ولكن ما حدث كان إشارة لا تخطئها العين بأن ما بين صالح والأحمر لا يمكن تجاوزه، وأن الكراهية التي يكنها لعلي محسن لا يمكن تجاوزها، وأنه لن يتسامح مع كل من حامت حولهم شبهات المشاركة في محاولة اغتياله في (جامع دار الرئاسة) مع كبار رجال الدولة.
لم يكن هادي منزعجاً من هذا الموقف، فعبرت ابتسامته عن سعادته بما يحدث، ولا بد أنه شعر بالغرور أن الخلاف بين رئيسه السابق وإلى جواره اللواء الأحمر اللذان قدما له الحماية طيلة وجوده في صنعاء منذ هروبه من عدن إثر أحداث يناير (كانون الثاني) 1986، يتطلب وساطته، كما أنه كان اللقاء الأول بين الرئيسين منذ فبراير (شباط) 2012 وما تخلل تلك الفترة من مماحكات أقل ما يمكن وصفها به أنها كانت شخصية ومليئة بالشكوك بينهما وأوقعت البلد في دائرة الخطر الداهم الناتج من العبث السياسي.
كان صاعقاً ليلة التوقيع على (اتفاق السلم والشراكة الوطنية) في 21 سبتمبر (أيلول) 2014 فحوى الخطاب الذي ألقاه الرئيس هادي واعتبر فيه أن الاتفاق مكّن البلاد من تجاوز (المحنة الكبيرة التي كادت أن تعصف بالوطن وأحلام أبنائه)، ووجه الشكر للمبعوث الأممي جمال بنعمر على جهوده لإنجاز الاتفاق... ولست متأكداً إن كان الرئيس يعني فعلاً ما يقول، أم أنه لم يكن يدرك أن الاتفاق ليس أكثر من تأسيس، بمباركته، بأن يصبح استخدام القوة مقبولاً كعامل للحسم والقرار والمشاركة في الحكم.
لم ينته ليل 21 سبتمبر 2014 إلا وقد انقضت مليشيات شابة لا تؤمن بقيم الدولة ولا منهجيتها، على كل المؤسسات العسكرية والأمنية والمعسكرات التي كانت داخلها وخارجها، وكان استسلام معسكرات الجيش يجري بصورة أشبه بالكابوس إذ لم تقاوم أي منها، وما كان ذلك ليتم لولا العون السياسي من قيادات كان الانتقام عند بعضها هي المحرك لمواقفهم، وأخرين اعتقدوا أنهم وجدوا في (أنصار الله) حليفاً يعينهم على التخلص من خصومهم أو إضعافهم على أقل تقدير.
تصور الرئيس أن الاتفاق اختراق يحسب له، فخرج مخاطباً المواطنين بالقول "إنني اليوم أقول لكم إننا لم نخيب ظنكم أبداً وكنا على قدر المسؤولية التاريخية لإخراج الوطن من أتون الانزلاق إلى مربع العنف والفوضى والاقتتال... فقد توصلنا إلى اتفاقية نهائية تمكننا من تجاوز هذه المحنة الكبيرة التي كادت أن تعصف بالوطن وأحلام أبنائه... وغلبنا لغة الحكمة والتعقل والمضي قدماً في بناء اليمن الجديد... اليمن الذي نحلم به جميعاً والقائم على العدل وسيادة القانون... اليمن الذي تسود فيه لغة الحوار وتحترم فيه ثقافة التنوع والقبول بالأخر". ثم بارك للعالم ما قال إنه اتفاق تاريخي.
اعتبر الموقعون أن الاتفاق جنب البلاد الوقوع في مربع العنف والدماء، لكن الواقع كان يشير صراحة إلى انتهازية سياسية بكل تجلياتها، لأن التوقيع كان نقيضاً لكل بنود الاتفاقية الخليجية وآليتها التنفيذية اللتين تمثلان جزءاً من المرجعيات التي يصرون على تطبيق ما يروقهم منها، ولم يكن يعكس بأي حال مخرجات منتجع موفينبيك.
في ذلك اليوم تابع اليمنيون بذهول واحداً من أكثر فصول تاريخهم غرابة، بعدما سمعوا تأكيداً بوصول اللواء علي محسن الأحمر إلى جدة بطريقة أشبه ما تكون بالروايات البوليسية، ولولا التدخل الحازم من الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز لوقع في قبضة الحوثيين، وهو ما حقق رغبة الرئيس هادي في إزاحته معتقداً أن ذلك سيتيح له الانفراد بالحكم، وأيضاً كان غيابه من المشهد مريحاً لخصمه اللدود الرئيس الراحل صالح الذي كان يشك في مشاركته في تدبير تفجير جامع دار الرئاسة.
لقد جاء التوقيع على الوثيقة شاهداً على استعداد الأحزاب السياسية لأي صفقة تسمح لها بالبقاء في الحكومة التالية، وبرر البعض منهم قبوله بأنه مسعى إلى تفادي الأسوأ، لكن الواقع هو أن هذه الأحزاب عدا أربعة منها لا تمثل أي ثقل شعبي أو سياسي على الساحة، بل إن أغلبيتها لا يمتلك في هياكله التنظيمية ما يؤهله لانتزاع مقعد واحد في أي انتخابات نيابية أو محلية، أو حتى عقد اجتماع لتغيير قياداته
بعد الانتهاء من مراسم توقيع اتفاق السلم والشراكة اختلف المشهد السياسي بكل تفاصيله، وصدق الساذجون الشعارات التي وضعها أنصار الله (الحوثيون) للإعلان عن نياتهم في مكافحة الفساد وإلغاء زيادة أسعار المشتقات النفطية، وفي حقيقة الأمر ليست سوى تحفيز للمشاعر ضد الحكومة ورئيسها، وكانت في الواقع حكومة عاجزة عن تحقيق أي من شعارات المطالبين بالتغيير، وأصيبت البلاد بشلل سياسي واقتصادي، وكانت تقارير السفارات الغربية تعكس المخاوف من تزايد الفراغ الأمني الحاصل في مناطق وجود الجماعات الإرهابية وقلقهم من التغييرات في أجهزة الاستخبارات وتسرب عناصر تابعة للحوثيين إلى داخلها.
بعد أيام من توقيع الاتفاق الذي توهم الرئيس هادي أنه أتاح له السيطرة على الوضع في العاصمة بدأ البحث عن رئيس حكومة جديد، ولم يكن مفاجئاً أن يقع اختياره على مدير مكتبه أحمد بن مبارك ليشكل الحكومة الجديدة في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2014، إذ لم يكن الرئيس يثق بأحد غيره في محيطه، ولا يتعامل مع العالم إلا عبره، وعلى الرغم ممّا زعمه الرئيس هادي عن موافقة شركاء (الاتفاق) إلا أن الحوثيين أعلنوا رفضهم فوراً، ورضخ هادي، وخسر بن مبارك الموقع الذي كان يطمح إليه لكنه لم يخسر تأثيره في الرئيس وبقي مديراً لمكتب رئاسة الجمهورية الذي تولاه سابقاً في يونيو (تموز) 2014.
لم يكن اختيار رئيس للحكومة قبل 2011 مستعصياً وكان لأي مرشح يقتنع به الرئيس الراحل أن يشكل الحكومة، التي لم تكن هي الأخرى خاضعة لمعايير ثابتة من الكفاءة والنزاهة وليس هذا تشكيكاً في نزاهة وكفاءة الكثيرين ممن مروا على المواقع الوزارية، ولكن العديد منهم كان اختياره محل تسـاؤلات وعدم تصديق... وفي وسط الخلاف حول شخصية المرشح الجديد تداول الناس أسماء كثيرين لم يكن أحد يضعهم ضمن الأسماء الجادة، ولم يكن لأي طرف سياسي عدا أنصار الله (الحوثيين) القدرة على الاعتراض، وهكذا قفز اسم خالد بحاح المندوب اليمني لدى الأمم المتحدة ليصبح مرشحاً لرئاسة مجلس الوزراء ووافق الحوثيون عليه فوراً، وقبل هادي بالأمر، وتم تكليفه في 13 أكتوبر 2014 لتشكيل الحكومة الجديدة.