الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ١٢:١٧ مساءً

إعادة قراءة التاريخ.. ضرورتها وضوابطها

د. عبدالله أبو الغيث
الجمعة ، ١٠ يناير ٢٠١٤ الساعة ١١:٢٠ صباحاً
التاريخ علم يستمد معلوماته – بدرجة أساسية- من المصادر التاريخية؛ على ما بين تلك المصادر من تباين واختلاف، من حيث الالتزام بالمصداقية والدقة والأمانة والوضوح فيما دونته لنا من مادة تاريخية.

وذلك ما جعل المناهج العلمية للبحث التاريخي تتعامل مع عملية قراءة المصادر والمؤلفات التاريخية بصفتها عملية مهمة لغربلة تلك المؤلفات، لنصل في نهاية المطاف لتأكيد ما يثبت صحته منها؛ أو على الأقل ما لا يتضح لنا أنه مكذوب وملفق بصورة واضحة.
ويتأتى ذلك للباحثين في التاريخ – وفي طليعتهم المؤرخين المتمرسين – عن طريق إخضاع المعلومات التي تحويها تلك المصادر والمؤلفات لشك الباحث والمؤرخ؛ خصوصاً ما يتعلق منها بالمعلومات التي تضاربت بخصوصها المصادر التاريخية، أو تعارضت مع حقائق العلم والفهم المنطقي لأحداث التاريخ الإنساني، أو مع معلومات تاريخية ثبت صحتها ولم تعد مثار خلاف بين الدارسين، إلى جانب إخضاع المعلومات التاريخية التي تردنا من مصدر وحيد للنقد والتحقيق حتى إن كان مؤلفه بمثابة شاهد عيان على الأحداث؛ لكون التأريخ للأحداث المعاصرة يعد من الصعوبة بمكان لأن أحداثه ما تزال في طور الغليان والتفاعل وقد لا يستطيع المؤلف التحكم بعواطفه تجاهها.

إذاً، فالمؤرخ الحصيف الملتزم بالمنهج العلمي التاريخي عليه أن لا يصدق كل ما ترويه كتب التأريخ إلا بعد أن يدرس الأحداث التي وردت فيها ومعرفة ملابساتها وظروف تدوينها، ودراسة شخصية المؤلف والظروف التي ألف كتابه فيها، وغرضه من تأليفه، مع التأكد من صدقه وعدم كذبه؛ سواء بسبب غروره الشخصي أو غرور الجماعة أو البلاد التي ينتمي إليها التي تهمه مصلحتها والحفاظ على سمعتها، أو كان كذبه عن اضطرار بسبب تعرضه لظروف كانت فوق طاقته جعلته يغيّب الحقائق التاريخية أو بعض منها؛ مثل الظروف السياسية والحربية التي قد تجعله يحابي جهة على أخرى، أو يجامل الزعماء والقادة، أو بغرض إرضاء الجمهور الذي يكتب له ورغبته في عدم إزعاج الرأي العام بإيراد أخبار قد تزعجه أو تصادم ذوقه، حتى لو لم يقتنع الكاتب بصحتها.

وتتم عملية النقد التاريخي هذه عن طريق التحليل والتعليل والاستنباط، مع المقارنة والمقابلة بين الأحداث التاريخية بمصادرها المختلفة من الناحية الموضوعية والزمانية والمكانية، ليتمكن من فهم ما لم يرد في صفحات المصادر التاريخية بشكل صريح؛ لكنه قد يكون بين سطورها بشكل غير واضح وملموس.

وتتمثل عملية النقد التاريخي بالعمل على تفسير الأحداث التاريخية عن طريق محاولة الإجابة عن (لماذا) حدث الحدث؟ لأن التاريخ لا يعطينا عادة إجابات إلا بخصوص ماذا حدث؟ وكيف حدث؟ أما لماذا حدث ما حدث فهي تقدم بصورة سطحية متمثلة بأسباب مباشرة (معلنة) عادة ما تكون مسوغات يقدمها صناع الحدث من أجل تسويقه لدى الآخرين، بينما تظل الأسباب الحقيقية (غير المباشرة) غامضة أو غير معروفة، ولا يتأتى الوصول إليها إلا بإخضاع الحدث لقراءة تفسيرية تبحث فيما وراء الحدث، فقيمة الحدث – كما يقول المؤرخ هورس – قد تكون أهم من الحدث نفسه، ونصل إليها عن طريق تفسير المجهول بالمعلوم.

إذاً، مهمة المؤرخ والباحث التاريخي هي قراءة أحدث التاريخ ومحاولة تفسيرها، وليس الاقتصار على كتابتها وتدوينها كما وردت في المصادر التي استقيناها منها.

ولا ضير أن تتعدد المرات التي تتم فيها عملية قراءة التاريخ وتفسيره ما دامت الجماعة الانسانية بحاجة إلى تجديد وعيها بتاريخها، حتى وإن تمت عملية القراءة من وجهات نظر مختلفة مادامت ملتزمة بأسس ومبادئ البحث العلمي.

ومع ذلك تظل الحقائق التاريخية قاصرة؛ سواء نتجت عن التدوين المباشر، أو القراءة التفسيرية، لأنها بشكل أو بآخر تعد من صناعة المؤرخ، مع أنها تصبح سلسلة من الأحكام المقبولة، لأنه ليس بإمكان المؤرخ تقديم التفسير النهائي للأشياء والأحداث، ولا يمكن له أن يصل إلى اكتمال هدفه المتمثل بإعادة رسم الحياة البشرية كما كانت.

وقد أثارت هذه النتيجة بخصوص الحقائق التاريخية الخلاف بين الدارسين عن ما إذا كان يجوز لنا أن نسمي التاريخ علماً من عدمه، وهو الخلاف الذي لم يحسم لصالح طرف من الأطراف؛ ولا أحسبه سيحسم. ومع ذلك فقد شاع مسمى علم التاريخ مثله مثل العلوم الإنسانية الأخرى: كالعلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية وغيرها، انطلاقاً من كون هذه العلوم صارت بمثابة تخصصات تدرس في الجامعات والمعاهد العلمية، وتخصص بدراستها أناس يمكن وصفهم بالعلماء، وذلك من باب المفهوم الواسع للعلم باعتباره كل ما يسعى الإنسان لدراسته والتوسع في معرفته، بعيداً عن التعريف الضيق الذي يحصر مسمى العلم على العلوم التي تعتمد التجربة والتطبيق وتصل إلى نتائج نهائية لا تقبل التغيير والتبديل.
ويوصلنا ذلك إلى تعريف التاريخ، والزمن الذي نشأ فيه علم التأريخ. وبهذا الخصوص يمكن تعريف التاريخ باختصار بأنه مجموع المكتسبات التي تحققت للإنسان ووصلت أخبارها إلينا. وقد حاول المؤرخون التفريق بين كلمة (تاريخ) التي تعني الماضي البشري للإنسان على وجه الأرض بمجالاته المختلفة، وكلمة (تأريخ) ويقصد بها الجهد المبذول لمعرفة ذلك الماضي ورواية أخباره ومحاولة إظهار معناه، أي العلم المعني بدراسة ذلك الماضي.

ويرى البعض أن التاريخ حركة متصلة تمتد من الماضي لتشمل الحاضر والمستقبل، وليس المقصود بذلك أن التاريخ يمكن أن يقوم بعملية تنبوئية بالمستقبل، ولكن أن يكون من مهام المؤرخ أن يصل بين الماضي والحاضر بطريقة إبداعية خلاقة، عن طريق تقديمه قراءة تفسيرية للتاريخ يسلط الضوء من خلالها على فترات وأحداث من الماضي بعينها، تكون إلهاماً وحافزاً على تحفيز الفعل التاريخي في الحاضر، بمعنى أن تصبح المعرفة التاريخية حافزاً لتفعيل نشاط الجماعة الإنسانية، ويصبح التأريخ بذلك عبارة عن حوار بين الماضي والحاضر.

وبناءً على هذا التفريق بين التاريخ والتأريخ يمكننا القول أن التاريخ قد بدأ منذ وجِد الإنسان على وجه الأرض، وانطلاق مسيرته الحضارية عليها منذ العصور الحجرية قبل أن يدلف إلى العصور التاريخية التي يربطها المؤرخون باكتشاف الكتابة في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد. ولعله من الأسلم أن نقول بداية عصور التأريخ وليس التاريخ بناءً على التعريف السابق للتاريخ والتأريخ.

وقد مثلت الكتابة الصورية (نسبة لاستخدام الصور في الكتابة) أول مراحل الكتابة التي عرفها الإنسان، متمثلة بالكتابة الهيروغليفية في مصر، والكتابة المسمارية في العراق التي ما لبثت أن تحولت إلى كتابة مقطعية. وفي حدود منتصف الألف الثاني قبل الميلاد ظهرت الكتابة الأبجدية في كل من اليمن وأوغاريت وجبيل، وقد ساعدت سهولة استخدامها على انتشارها في أصقاع المعمورة، حيث انتقلت أبجدية جبيل الفينيقية إلى الأراميين الذين طوروها وأعطوها أشكالاً أيسر، الأمر الذي ساعدها على الانتشار في الشرق، وكذلك انتقلت الأبجدية الفينيقية أيضاً إلى بلاد اليونان في مطلع الألف الأول قبل الميلاد تقريباً، الذين عملوا على تطويرها لتناسب لغتهم فأدخلوا عليها الحركات، وعنهم اقتبس الرومان كتابتهم اللاتينية في حوالي القرن الثامن قبل الميلاد، وانبرت مع مرور الزمن لتصبح وسيلة الكتابة الأولى في عالمنا المعاصر.

ومع ظهور الكتابة وتدوينها لكل مواضيع الحياة الإنسانية (تجارة، دين، عمارة، شؤون سياسية وعسكرية) يمكن القول أن عملية التأريخ للإنسان قد بدأت منذ تلك الفترة، لكون الهدف من تلك المدونات – خصوصاً في الجوانب السياسية والعسكرية – قد تمثل بالرغبة في تخليد منجزات أصحابها ونقلها لمن يأتي بعدهم من أجيال، بما يعنيه ذلك من ظهور للحس التأريخي لدى الإنسان القديم، خصوصاً بعد أن ظهرت قوائم بملوك بعض الدول القديمة، حيث ورد فيها ذكر تسلسلي لأسماء الملوك من أقدم العصور إلى تاريخ تدوين تلك القوائم، مع إحساس بالزمن جعلهم يبتكرون التقاويم وأرقام الحساب بصورة عمت أغلب الكتابات القديمة.

ورغم إطلاق البعض تسمية المؤرخين على مدوني تلك القوائم الملكية في الحضارات القديمة، وقولهم أن ذلك يمثل قصب السبق لتلك الحضارات في معرفة علم التأريخ الذي ينسب تأسيسه للمؤرخين الإغريق في القرن الخامس قبل الميلاد، إلا أننا نميل إلى التروي في تأييد ذلك القول، لأن تلك المدونات كانت عبارة عن تسجيل لما كان يفعله الحكام والقادة تنفيذاً لما يعتبرونه مشيئة آلهتهم ومعبوداتهم، أي أن التاريخ بهذا الشكل يصبح مجرد مرآة تعكس أوامر الآلهة التي تمليها على الحكام، أما كتبة هذه المدونات فهم مجرد موظفون لا يحق لهم التدخل في مضمونها، وهذا لا يرقَ إلى مرتبة التدوين التاريخي المكتمل، الذي يشمل تدوين أحداث الماضي؛ سواء كانت من صنع الملوك أم من صنع عامة الناس، وهو ما يجعلنا نتفق مع كولنجوود على تسمية تلك المدونات ب (شبه التأريخ)، وإن كنا نرى بأن ذلك لا يمنع من اعتبار تلك المدونات والقوائم القديمة بمثابة إرهاصات ومقدمات مهدت لظهور علم التأريخ فيما بعد على يد المؤرخين الإغريق.

تجدر الإشارة أن بلاد اليونان كانت قد شهدت انطلاق حركة فكرية منذ مطلع القرن السادس قبل الميلاد، تميز أصحابها بالتفكير العقلي، وشغفهم بالبحث والتحري والتعليل، وقد كانت الفلسفة من أبرز إبداعاتهم الفكرية. وقد ساعدهم كل ذلك للتوجه نحو دراسة التاريخ، وحاولوا الإجابة عن أسئلة كان الإنسان يجهل إجاباتها، وتصدوا لمعالجة مشاكل هي ليست من قبيل الإلهيات بل من أعمال الإنسان ونشاطاته المجتمعية، وإن كان ذلك لا يعني أن بلاد اليونان لم تعرف التفكير الأسطوري المرتبط بعالم الآلهة الوثنية الذي ساد في الشرق القديم، حيث نجد أن ملاحمهم المبكرة (مثل الإلياذة والأوديسا لهوميروس) لا تخرج عن ذلك، وحتى في عصر ازدهارهم الحضاري ظلت الحياة بالنسبة لهم بصورة أو بأخرى عبارة عن صراع بين الآلهة والبشر.

ومن بداهة القول أن المناهج العلمية للبحث التاريخي ظلت تتطور عبر العصور حتى وصلت إلى ما هي عليه في حقبتنا المعاصرة من تاريخ العالم.