الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠١:٣٢ مساءً

سؤال صادم..هل بلإمكان ترحيل صالح؟

د. عبدالله أبو الغيث
الاثنين ، ١٧ سبتمبر ٢٠١٢ الساعة ١٠:٥٠ صباحاً
تصر أحزاب المشترك ومعها جزء كبير من أعضاء المؤتمر على رحيل الرئيس السابق علي عبدالله صالح عن رئاسة حزب المؤتمر الشعبي، ونستطيع القول أن صالح نفسه بات يدرك أن رحيله عن رئاسة حزبه أصبح مسألة وقت لا أكثر، وهو ما يعني رحيله عن اليمن لكونه تعوّد على حياة السلطة والهيلمان ولن يستطيع العيش فيها بدونهما.

وغالباً فصالح سيفضل العيش في إمارة دبي حيث سبقته أمواله واستثماراته الضخمة، خصوصاً بعد أن خطف الموت صديقه ملس زناوي رئيس حكومة أثيوبيا التي كانت تمثل خياراً ثانيا لإقامة صالح. ولن تمانع حكومة دبي بمنحه الموافقة بالعيش على أراضيها نظراً للعلاقات المالية والأسرية التي تربط بين الجانبين، خصوصاً بعد أن تقبلت دبي كبار رجالات نظام مبارك مثل أحمد شفيق ومنحتهم المناصب الاستشارية.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح علينا هو: هل إذا ترك صالح المؤتمر واليمن نكون بذلك قد رحّلناه عن حياتنا؟ والإجابة على ذلك السؤال هي قطعاً بالنفي، لكون صالح – بسبب المدة الطويلة لحكمه- لم يعد يمثل شخصه، لكنه صار ثقافة وسلوكيات رديئة تأصلت في نفوس معظم أبناء الشعب اليمني؛ وهنا مكمن الخطورة.

وتتمحور تلك الثقافة والسلوكيات بنقاط عدة أهمها: تقديم الخاص على العام، والرغبة في إقصاء الآخرين خصوصاً من يقدمون أنفسهم كمنافسين، وإثارة الفرقة بين الناس، وتفضيل أهل الثقة على أهل الكفاءة، وتمجيد الجهل واحتقار العلم، وشقلبة الأمور بحيث يصبح الحق باطلاً والباطل حقا، واعتبار نفسه بمثابة النقطة المحورية التي تتحدد أهمية الآخرين من خلال تمركزهم حولها، مع الاستعداد الكامل للتفريط بالمصلحة الوطنية مقابل مكاسب ضيقه لشخصه وأسرته ودائرة المقربين من حوله، وتغليف كل ذلك بديمقراطية مزيفة كان يعتقد أنها ستؤبده في السلطة وستمكنه من توريثها لأسرته من بعده.

وبدون تخلصنا من تلك الثقافة بسلوكياتها المدمرة لا يمكننا القول أننا قد رحّلنا صالح حتى إن ترك المؤتمر واليمن، ولا يبدو في الأفق أننا سنتخلص من تلك الثقافة والسلوكيات عن قريب لعدم توفر الإرادة لدى الأطراف السياسية بمختلف أطيافها، سواء التي خلفت صالح بموجب المبادرة الخليجية أو من تجهز نفسها لذلك بعد الفترة الانتقالية.

فهذا هو الرئيس التوافقي هادي قد أبدى غضبه من العديد من المسؤولين الجدد، وفي مقدمتهم صخر الوجيه وزير المالية لمجرد أنه يرفض حوالاته المالية التي تتعارض مع الأنظمة والقوانين؛ وفي مقدمتها هبات المشايخ التي تبلغ المليارات. إلى جانب ذلك فالظاهر أنه قد قرر معالجة سنحنة سلفه للمناصب العامة بأبينتها، وصحيح أننا ذكرنا في أكثر من مقال بضرورة إعطاء الأولوية لأبناء الجنوب في تولي المناصب القيادية للدولة تعويضاً لهم عن الإقصاء الذي مورس في حقهم بعد حرب صيف 94م، لكن الجنوب الذي نعنيه يشمل خمس محافظات أخرى إلى جانب محافظة أبين.

دعونا نقول بأن صالح لن يرحل عن حياتنا بشخصه إلا بعد أن زرع نسخ منه تحمل ثقافته وسلوكياته في أعماق نفوسنا، بحيث أصبح داخل كل منا صالح صغير، وفي مقدمة الجميع قيادات حزبه وأحزاب المشترك التي صارت تمارس ما ذكرناه عن صالح داخل أحزابها؛ على تفاوت فيما بينها طبعاً، خصوصاً بعد أن اعتبرت نفسها بأنها صارت صمام الأمان لأحزابها، وعملت من أجل ذلك على حصر دائرة القرار في قلة قليلة من معاريفها المسبحين بحمدها، مقدمة أهل الثقة على الكفاءات والتخصصات، وأصبح شعارها "القريب من العين قريب من القلب أيضاً"، أي أننا لن نستطيع أن ننكر بأن صالح صار يسكن في نفس الإرياني واليدومي وياسين والآنسي والعتواني وغيرهم من قادة الأحزاب الصغيرة والهامشية الأخرى.

وهو كذلك يقطن في نفوس قادة الحراك الجنوبي: البيض وناصر والعطاس وغيرهم من القيادات الميدانية الذين أصبحوا غير قادرين على رؤية أحد غيرهم على ساحة الجنوب، ولا يرغبون بسماع صوت آخر مالم يكن رجع لصدى أصواتهم. ويقطن أيضاً في الحوثي وأتباعه الذين يعتبرون كل من يخالفهم أو يعارض تصرفاتهم عميل للأمريكان واليهود يلزم تصفيته؛ حتى إن كان مجرد عامل بسيط.

وصالح كذلك يكمن في أعماق كل مسؤول أول يدير مصلحة عامة ويريد أن يسخرها لأغراض ضيقة ترتبط به أو أسرته أو حزبه أو منطقته أو قبيلته، سواء كان وزيراً أو محافظاً أو قائداً عسكرياً أو مديراً لمؤسسة أو مدرسة أو مخفر شرطة أو غيرها من الإدارات العامة للدولة. ويكمن أيضاً في القاضي الذي يؤخر أحكامه أو يحكم بغير الحق مهما كانت الدوافع والمبررات، وكذلك في المحامي الذي يضع كل همه في كسب القضية التي يترافع فيها بغض النظر عن عدالتها.

ونجده أيضاً في أعماق الموظف المزاجي والمرتشي الذي يمارس المحسوبية في عمله، أو يمتنع عن إنجاز مهامه في وقت الدوام الرسمي ليكلف بعمل إضافي، وكل موظف ينقطع أو يتغيب عن عمله ثم يذهب آخر الشهر لاستلام راتبه كاملاً دون نقصان من غير أن يشعر بتأنيب الضمير. وكل ضابط أو عسكري يتمخطر بزيه الرسمي وسلاحه في الشوارع والأسواق بدون مهمة رسمية ويستخدمهما لأغراض غير شريفة. وكل مخبر أمني يستغل منصبه لأذية خلق الله والتنصل عن تسديد ثمن الخدمات العامة والخاصة التي يستهلكها.

إنه يسكن في شخص كل مقاول ينجز مشاريعه بالمخالفة للمواصفات، وكل مهندس يقبل أن يستلمها منه رغبة أو رهبة. وكل طبيب يستخدم مرضاه كفئران تجارب وهمه أن يملأ بواسطتهم خزائنه، وكل صيدلي يبيع أدوية منتهية وفاسدة أو مخالفة لما قرره الطبيب، وكل مخبري يكتب نتيجة التحليل من غير أن يحلل شيئا، وكل ممرضة تبتز مرضاها ولا تقدم لهم الخدمات إلا إن استلمت حق ابن هادي.

هو أيضاً في دكتور الجامعة وأستاذ المدرسة الذي لا يحترم مكانته العلمية ولا يلتزم بمهامه ويستخدم الدرجات لابتزاز طالباته وطلابه، وفي الطالب الذي يغش أو يستخدم الطرق الملتوية للنجاح، وفي الشاب الذي يقضي حياته مدخناً ومتسكعاً في الشوارع ومجالس القات متوهماً عبر أحلام اليقظة الكذابة للمستقبل الزاهر الذي ينتظره. وكذلك في رئيس تحرير الصحيفة أو الموقع الإلكتروني الذي يجعل من مهنته وسيلة للاسترزاق على حساب الحقيقة ويتعامل مع هيئة التحرير والمحررين وكأنهم مجرد سكرتارية لشخصه الكريم، وفي الإعلامي والكاتب والأديب الذي يستغل ثقة الناس به ليدلس عليهم ويقلب لهم الحقائق. وفي رئيس النقابة والمنظمة المجتمعية أو عضو هيئتها الادارية الذي يسخرها لتحقيق أطماعه ومصالح الجهات التي ينتمي إليها.

وكذلك هو في شيخ القبيلة وفي التاجر والنافذ الذي ينهب أموال وأراضي الدولة والمواطنين والبنوك ويمتنع عن تسديد قيمة الخدمات التي يستهلكها، وتجده ينافس الفقراء في أبسط حقوقهم، ثم يذهب للتباهي بأمواله وممتلكاته وهو يعلم أنها تكونت ونبتت من حرام.

إن صالح صورة متقمَصة في تاجر السلاح وحامله والعابث به. وكذلك قاطع الطريق وقاطع خطوط الكهرباء وأنابيب النفط والغاز. وأيضاً سائق السيارة الخاصة والأجرة التي تقطع الإشارات الحمراء وتتجاوز كل القواعد المرورية؛ أما إن كانت تحمل رقم جيش أو شرطة أو حكومي فالمصيبة أعظم وأبشع، ويصبح حاميها حراميها.

ببساطة إنه كل من يمارس الغش والخداع في عمله ويرفع شعار "الغاية تبرر الوسيلة"، أو يحاول أن يدعي لنفسه حقوقاً يستمدها من انتمائه الحزبي أو المذهبي أو المناطقي أو القبلي أو السلالي أو الأسري وليس من كفاءته وشهادته وخبرته ونزاهته وقدرته. وكذلك كل من يعتبر مخالفة القوانين والأنظمة وعدم الالتزام بها بطولة ورجولة، أو يمد يده للخارج ليستلم ثمن خيانة وطنه معتبراً ذلك حق مكتسب ليس فيه ما يعيب؛ يعني شحات وعميل عيني عينك.

خلاصة القول: هذه بعض مظاهر الثقافة والسلوكيات السلبية والسيئة التي زرعها الرئيس السابق صالح بين صفوفنا وفي أغوار نفوسنا خلال ثلث قرن من السنين العجاف هي مدة حكمة، نطرحها للنقاش الجاد والمسؤول أمام كل شرائح المجتمع بمختلف انتماءاتها وفئاتها وأعمارها بغرض تقديم الوسائل الممكنة للتخلص منها، وإن تمكنا من ذلك ساعتها فقط نستطيع القول أننا قد رحّلنا صالح عن حياتنا.