الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠١:٤٠ صباحاً

هوس الأقاليم وبعث الجينات المتعفنة

د. عبدالله أبو الغيث
الاثنين ، ٢٣ سبتمبر ٢٠١٣ الساعة ٠١:٤٠ مساءً
عندما يُقَدَم النظام الاتحادي لتحويل دولة بسيطة بنظام مركزي إلى دولة مركبة بنظام لامركزي فإن ذلك يتم بغرض توفير تجربة جديدة يفترض فيها أن تنقل البلد المعني إلى دورة حياة جديدة تسودها المساواة والتعايش والعيش الحر الكريم، لا أن تقودها إلى دورة جديدة من الصراع تنكأ من خلالها الجراح؛ بما فيها الجراح القديمة التي كانت قد اندملت أو صارت في طريقها للاندمال.

ويفترض أن صانعي القرار اليمني بمن فيهم قادة القوى المتحاورة في موفمبيك يضعون ذلك نصب أعينهم وهم يتحدثون عن قيام الدولة الاتحادية في اليمن بأقاليمها الجديدة التي ستحل بدلاً عن نظام المحافظات الحالية.

وذلك الافتراض يجعلنا نقول بأن معايير إنشاء الأقاليم اليمنية الجديدة لا يصنعها النافذون من الساسة والعسكر والمشايخ، ولا حتى غيرهم من الذين صاروا يجتمعون في الغرف المغلقة ليتحفونا كل يوم بإقليم جديد، مثل الإقليم الشرقي، إقليم الجند، إقليم سبأ، إقليم تهامة، وغيرها من طبخات الأقلمة التي ستفوح روائحها قريباً.

يا سادتي إن صياغة الأقاليم الجديدة أمر يجب أن يُسلم للجنة فنية من المختصين في مجالات الاقتصاد والاجتماع والجغرافيا والتاريخ والإدارة المحلية، وغيرها من التخصصات ذات العلاقة.. ذلك إن أردنا التأسيس لأقاليم متجانسة قابلة للحياة.

وعلى تلك اللجنة أن تبدأ عملها بوضع المعايير التي على أساسها تتم عملية أقلمة الدولة اليمنية، واضعة في اعتبارها أن الأقلمة في إطار الدولة الاتحادية يجب أن تقوم على أساس التكامل بين الأقاليم، لأن استغناء كل إقليم عن الأقاليم الأخرى إنما يؤسس لتحول تلك الأقاليم إلى دول مستقلة في قادم الأيام.. حتى إن كانت أكثر من إقليمين.

ومن بداهة القول بأن تحديد عدد الأقاليم يفترض أن يأتي كنتيجة لمعايير التقسيم والأهداف المتوخاة من ذلك التقسيم لا أن يسبقها، بمعنى أن نفصل ثوب الأقاليم أولاً في إطار من المعايير الوطنية السليمة ومن ثم نسقطه على أرض الواقع، لا أن نحدد الأقاليم أولاً ثم نسعى لتفصيل الثياب المناسبة لها.

وأجزم أن كثيراً منكم يضحك هذه الأيام وهو يطالع بعض الخرائط المقترحة للأقاليم اليمنية الجديدة في الصحف والمواقع الإلكترونية، خصوصاً إن بعض تلك التقسيمات يستخدم أصحابها المسطرة لتحديد الأقاليم على الخريطة، وبعضها يسعى لتجميع العديد من المناطق في إقليم واحد رغم عدم تجانسها.
ما يعني أننا فقط سننقل المشاكل من مركز الدولة اليمنية الحالية لنعممها على الأقاليم الجديدة، بحيث ننتج دورات جديدة من الصراح، وتبدأ بعض مناطق الأقاليم الناشئة بالمطالبة بالأقلمة من جديد؛ هذا إن لم تطالب بحق تقرير المصير.

والغريب أن دعوات تكوين بعض الأقاليم الناتجة من الغرف المغلقة تعتمد في تجمعها على هوس من البحث عن مسقط رأس الآباء والأجداد، ووهم الجينات المشتركة التي كان اليمنيون في طريقهم لتناسيها.

وبعيداً عن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن عمن أعطاهم حق ادعاء تمثيل أبناء الأقاليم التي يتحدثون عنها، فقد كان الأجدر بأولئك المؤقلمين أن يعتمدوا معيار مكان الإقامة الدائمة وهم يتداعون لتشكيل أقاليمهم.

فمن الطبيعي أن ابن صنعاء الذي يعمل في تعز أو يقيم فيها أن يكون من ضمن المرتبين للإقليم الذي ستنضوي فيه تعز وليس صنعاء، ومثله ابن تعز الذي يقيم في عدن، وابن عدن الذي يقيم في حضرموت، وابن حضرموت الذي يقيم في تهامة، وابن تهامة الذي يقيم في صنعاء..إلخ.

وذلك يجعلنا نتعجب ونستغرب من بعض الطروحات التي تعتقد أن نشوء الدولة الاتحادية بأقاليمها المختلفة سيحصر حق العمل في إطار كل إقليم على أبنائه ذوي الجينات المتوارثة، بل وسيتحتم على الموظفين من أبناء الأقاليم الأخرى المتواجدين حالياً فيها مغادرتها إلى أقاليمهم! وذلك أمر لم نسمع به حتى في الفيدراليات متعددة الأديان والأعراق واللغات.

وعلينا أن نتذكر أن مدينة عدن مثلاً قد احتوت كل القادمين إليها من جهات اليمن المختلفة وصبغتهم بلهجتها وعاداتها، وذلك عندما توفرت فيها سبل التعايش والاحترام المتبادل بين أبناء الوطن الواحد، ومثلها تعز التي استقبلت عُكفة الإمام أحمد من أبناء شمال الشمال عندما اتخذها عاصمة لمملكته، حيث أثر تسامح أهلها وانفتاحهم على القادمين إليها وجعل أبناء أولئك العكفة ينشؤون بصفتهم تعزيين عادة ولهجة وربوا أبنائهم على ذلك.

كلمة نختتم بها وندعو فيها المؤقلمين للتأقلم مع تاريخ أجدادهم المديد والمجيد الذي عاشوه على أرض اليمن من المهرة إلى صعدة، ليستفيدوا من حسناته ويتجنبوا سيئاته، لنضمن لقافلة حياتنا مواصلة السير صوب مستقبل آمن ومشرق.. وكلمة السر هي نعم للتعايش لا للإقصاء.