الجمعة ، ١٩ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ١٠:٤٩ مساءً

أبو يمن وهريدي الصعيدي

د. عبدالله أبو الغيث
السبت ، ١١ مايو ٢٠١٣ الساعة ٠٨:٤٠ صباحاً
يحكى أن صعيدياً كان يشتغل عامل بناء، وبينما كان في أحد الأيام يعمل في الدور العشرين لإحدى العمارات الجديدة سمع شخصاً ينادي "يا هريدي يا هريدي بيتكم في البلد اتحرق وابوك وامك ماتوا"، فأظلمت الدنيا في عيني العامل الصعيدي وقرر الانتحار ليلحق بوالديه، فألقى بنفسه من الدور العشرين، وبينما كان يطير في الهواء بدأ يستعيد بعض وعيه؛ فتذكر وهو قبالة الدور الخامس عشر بأن والده قد توفي قبل خمسة أعوام، وفي الدور العاشر تذكر بأن أمه أيضأً قد توفيت قبل عام، وفي الدور الخامس تذكر بأن اسمه ليس هريدي ولكن حسنين، لكن كل تلك الذكريات أتت في الوقت الضائع ولم تفده بشيء، حيث ارتطم رأسه بالأرض ولقى حتفه.

أتذكر هذه الحكاية كثيراً وأنا أتأمل في الأوضاع التي تشهدها الساحة اليمنية خلال هذه الآونة، وما نلاحظه من مواقف عاطفية ومتسرعة من قبل بعض الأطراف السياسية، حتى أن من يتابعها يدرك بأنها تنبني على خيارات جامدة وتصورات مسبقة، تهدف لدغدغة عواطف الشارع وكسبه في المقام الأول، من غير التفكير في عواقبها التي قد تكون مدمرة، وسيكون أصحابها ضمن من ستجرفهم في طريقها.

ورغم أننا نسمع الجميع يتغنى بحب الوطن، لكننا في الوقت نفسه نجد أن كل طرف يريد احتكار الحقيقة لنفسه، ويقوم بتصويب سبابته نحو الآخر لتخوينه والتشكيك في نواياه وتحقير شأنه، ويكفي أن نذّكر هؤلاء بكل ألوان طيفهم بالحكمة القائلة: "وأنت تشير بإصبعك إلى غيرك تذكر بأن ثلاث من أصابع يدك تتجه في الوقت نفسه نحوك"، بمعنى أن الأوصاف التي ننعت بها الآخرين بخيرها وشرها إنما نحدد بها صفاتنا بطريقة غير مباشرة.

ومن بداهة القول بأن الهجوم غير المبرر على أي طرف - بالحق وبالباطل - وتتبعنا لكل سلبياته صغيرها وكبيرها، ومحاكمتنا لإيجابياته وتفسيرها بالطريقة التي تهوى أنفسنا، لن يعني بالضرورة إضعافاً لذلك الطرف، بل إنه قد يولد تعاطفاً معه، ويجعله يبدو في نظر الناس مظلوماً يستحق مناصرته والالتفاف من حوله.. وهذا يذكرنا بحكمة شاعر روسيا العظيم بوشكين التي يقول فيها "إن ضربات المطرقة تتمكن من تهشيم الزجاج، لكنها لا تزيد الحديد إلا تمدداً".

فكم سيكون جميلاً لو أن جميع الأطراف السياسية على الساحة اليمنية من صعدة إلى حضرموت سعت لإلجام مشاريع التطرف بين صفوفها، وأفسحت المجال لدعاة الوسطية والاعتدال، الحاملين لمشاريع التعايش لتصدر المشهد، ولن تفرق أن يرتدي أولئك المتطرفون العمائم أو بنطلونات الجينز أو أن يحملوا فوق رؤوسهم قعاشاً تجعلهم أشبه بشجرة دم الأخوين.

إذاً، نحن بحاجة أن نبحث عن الذوات الحقيقية لبعضنا، وأن نبتعد عن رسم صور نمطية لغيرنا قد لا يكون لها وجود في أرض الواقع، وهي فقط تعشعش في أذهاننا، وأن ننطلق صوب الغايات المشتركة فيما بيننا ولا نتوقف كثيراً عند الوسائل، فكل الطرق تؤدي إلى (روما)، وأن يكون هدفنا حل أسباب المشاكل التي تعكر حياتنا ولا ننشغل بمظاهرها التي ستزول بصورة تلقائية بمجرد زوال الأسباب.. ذلك طبعاً إن أردنا أن نعيد ل(أبو يمن) صيته التاريخي والحضاري الذي كان.

شريعتنا لنا وليست للغرب
من الجميل أن نرى القوى السياسية الرئيسية في اليمن وهي تتوافق على اعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً لجميع التشريعات أثناء تحديدها لهوية الدولة اليمنية، فذلك أمر سيسجله لها التاريخ في أنصع صفحاته، لكونها قد حرصت على تجنيب اليمن الدخول في جولة من الصراع الذي يريد البعض جرها إليه بذرائع واهية، وما ذهبت إليه تلك القوى الوطنية هو الأمر الطبيعي في حياة شعب مسلم يخلو من وجود أقليات دينية، فعدد اليهود اليمنيين لا يزيد عن ثلاث مئة شخص حسب أعلى التقديرات، وذلك العدد لا يمكن أن يصنف بأي حال من الأحوال كأقلية دينية ضمن خمسة وعشرون مليون مسلم إلا من قبيل المزايدة.

لكن الغريب أن نرى بعضاً من الذين انبروا لرفض بقاء المادة (3) كما هي في الدستور الحالي، ومطالبتهم بحذفها أو تغييرها بحجج يعلمون هم قبل غيرهم أنه لا أساس لها، مثل قولهم بأن الشريعة الإسلامية ترفض أنظمة الحكم الديمقراطية الحديثة، أو أنها تفتقد للتعامل مع ظواهر معاصرة كقانون المرور وغيره، وذلك ما لم نستطع فهمه، فالشريعة الإسلامية تفتح باب الاجتهاد في كل أمور الحياة التي لم يرد فيها نصوص قطعية من القرآن والسنة بما يناسب الزمان والمكان.
والمؤسف أن بعض أصحاب تلك الطروحات أرادوا من خلال تبرؤهم من شريعتهم الإسلامية مخاطبة العالم الغربي، ونحن نثق بأنهم حتماً سيدركون بأنهم قد اختاروا الطريق الخاطئ، لكننا نخشى أن يتم ذلك بعد فوات الأوان على طريقة صاحبنا الصعيدي، فالشعوب الغربية نفسها لا تتبرأ من دينها المسيحي، والشواهد على ذلك كثيرة ومعروفة، ويكفي أن نضرب مثلاً عليها بقول توني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق بأنه لا ينام إلا والكتاب المقدس تحت وسادته، أما الولايات المتحدة الأمريكية فشعارها الرسمي هو "بالله نؤمن".. فلا تدفعنا عقدة النقص والرغبة في المزايدة على بعضنا لنغرد خارج السرب، ونصير ملكيين أكثر من الملك.