الجمعة ، ٢٦ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٦:٥٠ صباحاً

هوجو تشافيز وأمريكا ومشائخ اليمن

د. عبدالله أبو الغيث
السبت ، ٠٩ مارس ٢٠١٣ الساعة ٠٧:٢٧ مساءً

أخيراً رحل الزعيم الفنزويلي البوليفاري اللاتيني هوجو تشافيز بعد صراعه مع مرض السرطان لأكثر من عامين؛ فقد انتصر تشافيز في معارك كبيرة وكثيرة، واستطاع أن يقهر أعداءه بمن فيهم الامبريالية الأمريكية ويفشل مؤامراتهم ضد بلده، لكنه كما كل البشر استسلم للإرادة الإلهية وانتقل إلى حياة العالم السرمدي.
لسنا هنا بصدد توزيع صكوك الغفران كما فعل البعض لنحدد أن كان تشافيز في الجنة أو في النار، فذلك أمر لا يملكه إلا صاحب الجنة والنار، أما نحن البشر فليس من حقنا أن نحدد لبشر مثلنا مصيرهم الذي ينتظرهم في العالم الآخر، لأن الله لا ينظر إلى الصور ولكن إلى القلوب.. وما في القلوب لا يعلمه إلا علام الغيوب.
لازلت أذكر يوم ضربت بتشافيز مثلاً في ندوة أقامها أحد المراكز البحثية في صنعاء في مارس 2009م تضامناً مع الرئيس السوداني عمر البشير الذي صدرت بحقه مذكرة اعتقال من محكمة الجنايات الدولية، لقد قلت في تلك الندوة يومها بأن على جميع الزعماء العرب من المحيط إلى الخليج – دون استثناء – أن يحتموا بشعوبهم فهي وحدها القادرة على حمايتهم كما فعل الشعب الفنزويلي مع رئيسه المحبوب.
لقد كنت أشير إلى الانقلاب العسكري المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية الذي أطاح بالرئيس الفنزويلي المنتخب تشافيز في أبريل 2002م، وكان أنصار الانقلاب – وهم في معظمهم من النافذين - يعتقدون أن وقوف الولايات المتحدة الأمريكية في صفهم سيحسم الأمر لصالحهم.
لكن المفاجأة المذهلة بالنسبة لهم – والتي لم تكن في حسبانهم – تمثلت بنزول جموع الشعب الفنزويلي الفقيرة إل الشوارع، حتى تمكنت من إرغام الانقلابين على الاستسلام، وأعادت الرئيس تشافيز إلى كرسي السلطة، ولم تملك أمريكا وأذنابها في فنزويلا إلا الخضوع لإرادة الشعب الفنزويلي على مضض، لأنها تعرف بأن إرادة الشعوب لا تقهر.
يومها خاطبتُ ممثلي السلطة والمعارضة اليمنية الذين كانوا حاضرين في الندوة طالباً منهم بأن يتجهوا لكسب شعبهم خيراً لهم من التمرغ على عتبات السفارة الأمريكية، واستجداء تقارير المعهد الديمقراطي الأمريكي والبعثة الأوربية، لكني قوبلت بنظرات غريبة من كلا الجانبين.. أحسب لسان حالها كان يردد في قرارة النفس "بماذا يهذي هذا المجنون"؟!
نعم.. إن الاحتماء بالشعب هو الضمانة الأكيدة لبقاء السلطة والمعارضة، والاحتماء بالشعب إنما يتمثل بأن نقدم له الحرية والديمقراطية والحياة الكريمة، وأن نضمن له فرص التنافس الشريف في إطار من المساواة والعدالة، ومن غير ذلك ستكون الشعوب على استعداد بأن ترمي بزعاماتها في أقرب مكب، وهو ما أثبتته ثورات الربيع العربي بعد ذلك، وما زال الدرس يتفاعل إلى اليوم.
وهو درس يفترض بالقيادات اليمنية استيعابه، بحيث تدرك بأن العمل لمصلحة الشعب بجموعه الغفيرة المسحوقة يجب أن يكون مقدماً على استرضاء فئة النافذين (المشائخ)، ونحن هنا إذا نجعل تسمية المشائخ تسمية عامة للنافذين إنما نعبر عن واقع معاش ومؤلم صرنا نعيشه في اليمن التي كانت في يوم ما تسمى ببلاد العرب السعيدة.
فلقب الشيخ صار يستهوي كل أصحاب النفوذ في اليمن ولم يعد يقتصر على تلك الفئة الاجتماعية من مشائخ القبائل والمناطق والاقطاعيات، وما زالت أذكر يوم وقف برفسور في جامعة صنعاء – قبل الثورة الشعبية – في إحدى قاعات الجامعة يتزلف وينافق الرئيس السابق ويصفه بأنه "شيخ مشائخ اليمن".
وإن كانت المشيخة في اليمن لم تعد تقتصر على الامتداد اللفظي للقب الشيخ والتسابق عليه، لكنها انتشرت بتكريس الثقافة العبثية الوراثية التسلطية التي يجسدها، فزعماء الأحزاب أصبحوا ينظرون إلى أحزابهم بكونها مجرد قبائل هم مشائخ مخلدون عليها، ومثلهم معظم (مُلّاك) المنظمات الحقوقية والجماهرية الذين باتوا يكوشون على كل صغيرة وكبيرة في منظماتهم ويجعلونها مصدراً للاسترزاق الشخصي، وصارت منظماتهم لا تعرف انتخاب هيئاتها القيادية إلا لمرة واحدة عند التأسيس.
وكذلك قادة المعسكرات والمكونات الدفاعية والأمنية الذين صرنا نراهم يقدمون أنفسهم كمشائخ لوحداتهم أكثر منهم قادة محترفين، وصار جيشنا وشرطتنا مجرد قبائل عسكرية لا أكثر. ومثلها مؤسساتنا المدنية التي مازالت في معظمها تخضع لأساطين الفساد ولا يريدون أن يتزحزحوا عنها قيد أنملة، ويتعاملون معها بصفتها وريثة تنتقل إليهم كابر عن كابر.
خلاصة القول: لقد كان هوجو تشافيز مثالاً للقائد الذي يتلمس هموم شعبه، ويستمد مكانته وقوته من جموع الشعب المسحوقة، وليس من قوى النافذين المهيمنين على مقدرات البلاد، وهو نصف الكوب الممتلئ الذي نريد أن نراه من حياة تشافيز، ولا نتحجج بعلاقاته ببعض الديكتاتوريات العربية والعالمية فذلك أمر يأتي في إطار حربه ضد الامبريالية الأمريكية.
إذا، العدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية والتوزيع العادل للسلطة والثروة هو الدرس الذي نريد أن يدركه (مشائخ) اليمن بمختلف تصنيفاتهم السياسية والعسكرية والمجتمعية من حياة هوجو تشافيز، لأن البديل سيكون ثورة جياع.. فالفئات المقهورة والمنهوبة قد أدركت حقيقة وضعها، ونزعت الخوف من قلوبها، وعرفت طريقا إلى الميادين العامة، وبقية الحكاية معروفة.
وهو درس نتمنى أن يستوعبه كل قادة الدول العربية والإسلامية، ويحذون حذو تشافيز.. ليس في إخلاصه لشعبه فقط، بل وفي عمله الدؤوب للنهوض بالدول البوليفارية التي تشكل الانتماء الإقليمي لفنزويلا، وكذلك الدول اللاتينية في أمريكا الجنوبية والوسطى التي تمثل الامتداد القاري واللغوى لها.. ورحم الله هوجو تشافيز.