الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٢:٢٢ مساءً

تجربة اللامركزية الإدارية والمالية في اليمن

موسى علاية
السبت ، ١٢ يناير ٢٠١٣ الساعة ١٢:٤٥ مساءً
إن التُوجّه نحو اللامركزية الإدارية والمالية (السلطة المحلية)، يٌعد
حديثٌ ومهمٌ في دعم و تفعيل المسيرة التنموية في اليمن، ولكن لم يتبلور
برغبة يمنية خالصة، بقدر ما كان تحت تأثير الضغوط التي مارستها الجهات
المانحة خلال الربط بين تقديم المساعدات إلى اليمن في مختلف المجالات،
وسلك اليمن طريق اللامركزية الإدارية ومشاركة المجتمع المحلي في الحكم.

لقد تم اعتماد هذا النهج بسبب اعتقادين سائدين لدى العديد من الجهات
المانحة العاملة في اليمن: الأول: إن حكومة مركزية قوية بشكل مُفرط من
شأنها أن تشكل عقبة رئيسية أمام التحول الديمقراطي في هذا البلد، كما
غيرها من دول العالم الثالث، فالاتجاه نحو اللامركزية قد يؤدي إلى تقليل
من القوة المهيمنة للحكومة المركزية، وبالتالي تحقيق الحكم الرشيد،
وتحويل نمط الحكم من أسفل إلى أعلى الذي يؤدي إلى تعزيز المسيرة
الديمقراطية في اليمن. الثاني: تُعد اللامركزية المالية والإدارية أفضل
وسيلة لتعزيز الكفاءة، والمساءلة، والشفافية، والقدرة على الاستجابة
للمتطلبات المواطنين في المستويات المحلية، ولتفعيل صلاحيات الحكومة
المحلية، من أجل تعزيز التنمية المحلية، وتحسين آليات تقديم الخدمات،
وبالتالي التخفيف من حدة الفقر في المجتمع اليمني.

بناءً على ذلك، فقد خصصت الجهات المانحة حجماً كبيراً من المساعدات
المقدمة إلى اليمن لترجمة هذاالتوجّه على أرض الواقع، خلال تطوير الإطار
القانوني والمؤسسي وتوفير التدريب والمساعدة التقنية للمؤسسات الحكومية
والمسئولين المحليين، بما في ذلك المهارات التقنية ذات الصلة لعمل
الحكومة المحلية،مثل تصميم وتنفيذ الانتخابات المحلية، وتقديم الخدمات
وتعبئة الموارد، وتطوير مهارات التخطيط والإدارة في المستويات المحلية.

بعد قرابة عقد من المناقشات والوعود بين الحكومة اليمنية والجهات
المانحة، ظهر إلى حيز الوجود قانون السلطة المحلية في اليمن لعام 2000م،
والذي تم بموجبه إنشاء مجالس محلية منتخبة شعبياً في عموم محافظات
ومديريات الجمهورية اليمنية في انتخابات السلطة المحلية لعام 2001م. وتم
إعطاء المجلس المحلي على مستوى المحافظة والمديرية (كل في نطاق وحدته
الإدارية) صلاحياتٍ كبيرة لاقتراح مشروعات خطط التنمية الاقتصادية
والاجتماعية والإشراف على تنفيذها، بما يكفل توفير وتطوير الخدمات
الأساسية للمجتمع المحلي وتنميته، كما يقوم بالتوجيه والإشراف والرقابة
على أعمال الأجهزة التنفيذية للوحدة الإدارية وتقييم مستوى تنفيذها للخطط
والبرامج ومساءلة رؤسائها ومحاسبتهم وسحب الثقة منهم عند الإخلال
بواجباتهم.

تقييم هذه التجربة وقياس مدى نجاحها أو فشلها بمختلف جوانبها، هو خارج
نطاق هذا المقال، لكن ما يهمنا أكثر هو تقييم مثل هذه التوجهات المُعتمدة
من قبل الجهات المانحة والتي تسعى دائما لتطبيق العديد من الاستراتجيات
والمشاريع الإنمائية بدون دراسة منهجية وعميقة، للتعرف على المجتمعات أو
المؤسسات التي تحاول إحداث التغيير فيها. فعملية التحول إلى اللامركزية
الإدارية والمالية، قد تثير قضايا اقتصادية، وإدارية، واجتماعية كثيرة،
قبل كل شيء القضية السياسية، خصوصا في بلدان الديمقراطية الناشئة، حيث
أصحاب القوة والنفوذ في المجتمع والمسئولين في الحكومة المركزية، عادة ما
يكونون مترددين في نقل السلطة الحقيقة للحكومات المحلية ، بسبب الخوف من
فقدان السيطرة . لذلك فإن المشاريع الإنمائية الخارجية في هذا السياق، لن
يكون لها تأثير حقيقي إلا إذا كان تصميمها قد بُنيِ على تحديد وفهم مختلف
الجهات الفاعلة في المجتمع وعلاقة المصالح والسلطة الفعلية كضرورة حتمية.
ولكن المستغرب في اليمن، إن الجهات المانحة أصرت على المضي قدماً في
تطبيق نظام السلطة المحلية تحت تأثير آراء بعض الخبراء الأجانب باعتبارها
الطريقة المثلى والبداية الحقيقة للإصلاح في اليمن بدون دراية كاملة حول
طبيعة التركيبة الاقتصادية والسياسية والإدارية، والأهم من ذلك
الاجتماعية في هذا البلد.
الواقع يحدثنا اليوم وبعد مضي عشر سنوات من تجربة السلطة المحلية في
اليمن بأنها عملية سياسية طويلة ومعقدة، ومرتبطة بشكل وثيق بإصلاح النظام
الحكومي والإداري برمته وبتركيز خاص على الهيكل القبلي في اليمن. وعادة
ما تواجه العملية باعتراضات وتعاني تكراراً من إخفاقات، وتحتاج إلى هياكل
جديدة لا يمكن إنشاؤها إلا على المدى الطويل، وإن أصبح الإطار القانوني
والمؤسسي للامركزية متقدماً إلى حد ما.
والسؤال الذي يجب إثارته هو: لماذا لم تُركز الجهات المانحة العاملة في
اليمن على تقوية وتطوير الحكومة المركزية قبل البدء في تنفيذ مثل هذه
الإصلاحات، تجنباً لقضية استهلاك الوقت والمال في مشاريع ليس لها جدوى؟
لماذا الجهات المانحة عند تصميمها المشاريع الخاصة بتعزيز تجربة
اللامركزية الإدارية والمالية في اليمن لم تُدرج برامج تدريبية لكبار
المسئولين في الحكومة المركزية والسياسيين ولا سيما القوى الفاعلة (القوى
التقليدية) في المجتمع لتغيير التصورات والمعرفة، ولكسر حاجز الخوف من
فقدان السيطرة لدى هذه الكيانات قبل المضي قدماً في تنفيذ مشاريع وبرامج
واستراتجيات غير منظمة هادفة فقط في خلق الإطار القانوني والمؤسسي لهذا
الكيان و تدريب وتأهيل المسئولين الحكوميين في المستوى المحلي؟.

إذا كان الاعتبار الأساسي من اعتماد المانحين طريق اللامركزية الإدارية
والمالية كطريق للإصلاح في اليمن هو الاعتقاد السائد لديهم بأن إجراء
انتخابات محلية في اليمن ستؤدي إلى خلق قيادات وقوى جديدة في المستوى
المحلي مختلفة عن القوى التقليدية ( زعماء القبائل) لتتزعم مسيرة التنمية
في هذا المستوى، ومن ثم إضعاف البنية القبلية في المجتمع اليمني وتحقيق
تنمية حقيقة على المستوى الوطني. بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع
هذا التُوّجه، يمكننا توضيح فكرة واحدة، والذي يبينها التحول التاريخي
للمجتمع اليمني منذ آلاف السنين. الهياكل والثقافة القبلية في اليمن
تتأثر أيضا بعملية مستمرة من التكيف والتحول بسبب علاقتها المعقدة مع
الدولة.
فمن الطبيعي حين أدرك شيوخ القبائل في اليمن منذُ الوهلة الأولى أن قوتهم
ونفوذهم على مجتمعاتهم المحلية قد تتقلص من خلال خطط اللامركزية، أن
يشتركوا بنشاط في الانتخابات المحلية : في كثير من الأحيان هم رؤساء و
أعضاء المجالس المحلية، حتى أن مسألة التمييز بين النخب التقليدية
والبيروقراطية الحكومية غالبا ما تكون معقدة في المستويات المحلية. في
الحقيقة، بدلاً من المجالس المحلية تُضعف سلطات النخب التقليدية في
المستويات المحلية تم استخدمها من قبلهم كوسيلة لتعزيز[ سلطتها
التقليدية]، من أجل إضفاء الشرعية على سياساتها وتوجهاتها تجاه
مجتمعاتهما المحلية.
والكثير من المهتمين في الشأن اليمني يعتقدون أن تجربة المجالس المحلية
المنتخبة تٌمثل بعداً جديداً في عملية الإصلاح الإداري في اليمن، كونها
فرصة للتحرك بعيدا عن السيطرة المركزية والتي بدورها تشير إلى أن هناك
فرصة كبيرة لـ: (1) معالجة الفساد في أماكن تواجده على مستوى المحافظات
والمديريات،(2) تقليص انتشار الفساد مع استمرار توجه اليمن نحو
اللامركزية، وهذا ما يؤكد عليه المانحون مراراً وتكرارا في العديد من
المشاريع المنُفذة في هذا السياق (الحد من انتشار الفساد في المستويات
المحلية، مع رفع كفاءة أجهزة السلطة المحلية في محاربة الإختلالات
الإدارية). إن ما يحصل في أرض الواقع، ونتيجة للتصميم و التطبيق الرديء
وغير المنظم والمدروس لهذا التحول نحو لامركزية أكثر؛ قاد إلى لامركزية
أكثر في الفساد، بدلا من الحد منه.
كل الحقائق المسرودة سابقا تدل على أن تطبيق اللامركزية كان خياراً غير
فعال في ظل طبيعة الهيكل الاجتماعي في اليمن، ولذلك قد نكون متوافقين مع
مواقف العديد من دوائر صنع القرار في اليمن التي كانت معارضة آنذاك لمثل
هذا التُوجّه خلال العشر السنوات من المفاوضات بين اليمن والجهات المانحة
لتبني هذا الخيار. في المقابل، قد يكون هناك اتفاق، من حيث المبدأ، مع
توجهات المانحين في اعتماد المشاركة المجتمعية في عملية التنمية
باعتبارها وسيلة لتشجيع المجتمع على الاهتمام، والملكية، و ثم تحقيق
استدامة في المشاريع، وفي نهاية المطاف إحداث تغيير حقيقي. العلاقة بين
المشاركة والاستدامة للبرامج، لا يمكن إنكارها، لكن هناك قضايا أخرى يجب
النظر فيها في مثل هذه البيئات الاجتماعية والسياسية، درجة المشاركة،
علاقات النخب التقليدية و القوى المختلفة.

ومن دون إغفال النقاش أعلاه ، يمكن النظر إلى المشاركة من منظورين
مختلفين : الأول ينظر إلى المشاركة الاجتماعية على أنها عملية مشاركة
الناس في الأنشطة الإنمائية (موجهة من الجهات المانحة) لضمان الاستدامة
عن طريق فرض استراتيجيات لتغيير حياة الناس من خارج الإطار المحلي، أو لا
تتناسب مع طبيعة تركيبة المجتمع المحلي . النتيجة لاعتماد مثل هذا النهج
التنموي في اليمن، كما تم مناقشته سابقاً، هو تفاقم المشاكل المتنوعة في
المستويات المحلية، بالتالي زيادة التعقيد.

يبدوا واضحا أن المانحين اهتموا أكثر بالعمليات لا بالنتائج: لماذا لا
يتم الانتباه إلى أن الحكومة المركزية حتى الآن غير قادرة على أن تمول
بشكل كامل، الخدمات الاجتماعية، نتيجة لطبيعة التركيبة المجتمعية فكيف
إذن نتخيل بأن المؤسسات المحلية ستقوم بهذا الدور بفاعلية. ولذا، فإن
بناء مؤسسات مركزية قوية قادرة على تقديم الخدمات الاجتماعية لتطوير
السكان في المستويات المحلية ستكون بمثابة اللبنة الأساسية التي من
خلالها سيُجسد المنظور الثاني من المشاركة المجتمعية في إحداث تغيير في
[تفكير الناس] لتوليد طلب ذاتي من تلقاء أنفسهم في الدفع بعجلة التنمية
من خلال المشاركة المجتمعية الفاعلة، وباعتماد هذا النهج سيكون الاهتمام
في النتائج أكثر من العمليات.

من الضرورات الإصلاحية في اليمن محاولة الحد من التحول إلى نظام
اللامركزية الإدارية والسياسية كما يطرح حاليا من قبل العديد من الجهات
الداخلية والخارجية. لابد في نفس الوقت من محاولة تقوية المركز اولا من
ثم الاتجاه نحو اللامركزية. الإرتهان على نظام اللامركزية بكل أشكالة لحل
مشاكل اليمن في الوضع الراهن هي محاولة لتحقيق ما نسميه (لامركزة الضعف).
لابد ما يكون هناك حكومة مركزية قوية لإعتماد اللامركزية كمنهج إصلاحي.