الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٦:٢٨ مساءً
الجمعة ، ١٧ أغسطس ٢٠١٢ الساعة ٠٥:٥٠ صباحاً
رَسب الإرث التاريخي الديني مفهوماتٍ جامدة لمبادئ عظيمة فأصبحت تلك المعاني هي أول ما يتبادر الى الذهن حين ذكر مصطلحاتها ، من تلك المصطلحات مصطلح الغرباء..

الصورة الأولى لسرب المعاني التي تَفِدُ الى المُخيلة هي صورة لإنسانٍ متدين بلحية طويلة و بثوبٍ قصير معتكف في بيوت الله يتلو القرآن ليلاُ و نهاراً و يصوم النهار و يقوم الليل و إذا مرَ و رأى نساءً غض بصره ، فيصبح المعنى الوافي لترجمة كلمة غرباء في العقل تماماً هو تلك الصورة المبدئية...

لمصطلح الغرباء في بلدي معنى مختلف تماماً ، هو أبعد من ذلك و أعقد ، الغرباء في بلدي قابضون على حمم البركان و ليس على الجمر ، معتصمون بحبل الله بالمعنى الأوسع و الأسمى ، مرابطون على مبادئهم و لم يحيدوا عنه قيد أنملة و لا يخافون في الدفاع عنها لومة لائمه ، فيا ترى منهم الغرباء في بلدي؟!

الغرباء في بلدي هم ذلكم الذين آثروا عيش الفقر و العوز على أن يسرقوا مع من سَرق ، أن يفسدوا مع من فسد ، هم الذين لم يذعنوا للتبريرات مثل الجوع كافر و مشي حالك ، و الحال صعبة و لا أملك حق القات ، هم اولئك الذي إذا نظر اليهم المجتمع بادر و بسرعة البرق ليصفهم بالأغبياء ، هم الذين حصلوا على شهاداتٍ عُليا و خبرة طويلة في مجالهم و لكنهم ظلوا في المؤخرة وراء سليلي الأسر الحاكمة و المقربين لهم...

الغرباء في بلدي هم أولئك المسؤولون الشُجعان الذي أسسوا لثورات البناء داخل قلوب الناس ، هم الذي قالوا لا للفساد حين كان الفساد الرب المعبود و الصوت الذي لا يُقطع و الركب الذي لا يتوقف ، الفصيلة العظيمة من الغرباء في بلدي تتجلى في أكاديمي منعه كبرياء العلم أن يقول نعم لفاسد او يصفق له أمام الملأ ...

الغرباء في بلدي هم أولئك المواطنون الذي تمسكوا بمبادئ الشرف في حقولهم العملية ، ضابط مرور ضُرب به المثل بإنضباطه و رفضه الرشوات و الوساطات ، معلمٌ يصرف الساعات ليُعلم الطلاب فلا ينسى نقطة و لا يضيع دقيقة رغم شعورة بالفقر و الألم و الجوع و القهر ، دكتور أكاديمي يعود قُرب المغرب و رجلاه يؤلمانه فيظل يصرخ في الليل كجريح ..

الغرباء في بلادي هم اولئك الثلة القليلة من مُحترمي القلم الذي لم يصمتوا طمعاً او خوفا حين صمتت الأقلام و جفت الصحف ، الذين قالوا لا للفساد لأن الفساد يزيد من دمعات الفقراء و يفاقم من معاناتهم و يسلبهم الإبتسامة ، الذين أصلحوا و بينوا و قاتلوا الفساد بكل رجولة و إنصاف و تجرد من شهوات الإنتماء و المصالح ، الذين ينامون و في قلوبهم غصة لرؤية فقير مُعدِم ، لفقد الحيلة لمساعدة مريض ينام امام مستشفى و لا يملك حق الدواء ، لعزوف شاب طامح عن العلم لأنه لم يعد قادراً على شراء قلم او دفتر ليُدون ملاحظاته و ليكمل مشواره التعليمي...

الغرباء في بلادي هم العلماء المصلحون الذين حاربوا التطرف و رشدوا عواطف الناس الدينية و حموا الشباب النبيل البريئ من الحج نحو قبلاتِ الموت و القتل و سفك الدماء ، العلماء الذين بينوا للناس الأخلاق و سلوكيات المؤمن الإيجابي النافع لمجتمعه و لم يقتصروا فقط على أبواب الوضوء و التيمم و أحكام الطهارة!

الغرباء في بلدي هم أصحاب الإحساس الراقي من الفنانين الذين تغنوا بقضايا المجتمع و مواجهة رعود التخلف و الإنحلال الثقافي، الغرباء في بلدي فنانون تغنوا بإسم الوطن فدمعت العيون و توحدت القلوب ، فنانون أسعدوا الناس في أفراحهم و أتراحهم ، كانوا مع الطفل الصغير و هو يتردد خوفا من الذهاب الى المدرسة لكنه بدأ يتمتم بأذكار الدخول الى المدرسة : مدرستي أمي التي من ثديها رضعت كل بغيتي ، لها صلاتي و انحناء جبهتي ، أحببتها حبي الكبير لأمتي و تربتي ، و كانوا ايضا مع الطالب وقت تخرجه و وقت زفافه و رزقه بالبنين و البنات...

الغرباء في بلدي أناسٌ آمنوا بالمدنية في مجتمع ينام بجانب سلاحه ، في مجتمع لا زال يصنف الناس الى مُزين و قبيلي ، الغرباء هم الذين يقدمون كل طاقاتهم لخدمة المجتمع دون تمييز او عنصرية او طائفية فالناس عندهم أبناء آدم و آدم من تراب و الوطن هو العنوان الأسمى لكل الكتب و الإختلافات و وجهات النظر...

طوبى للغرباء ...