الخميس ، ٢٥ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٢:٥٤ صباحاً

المحرقة التي لا تنسى

حمدي نعمان
الاربعاء ، ٣٠ مايو ٢٠١٢ الساعة ٠٩:٤٠ صباحاً
ـ المحرقة التي لاتـنسى :
( ثلاثة اتصلت بهم حال المحرقة ، وثلاثة اتصلوا بي بعد المحرقة )

يوم 2011/5/29 م كان لي معه ( حكاية ) نكهتها ألم ، ومذاقها ندم
ومزاجها دمع ودم .. حزن وبكاء ، وقتل ودماء ، استشهاد أخوين عزيزين .. وحرق معاقين ( أصمّين ) .
ليلة حزينة كئيبة ، دقائقها عصيبة ، لأني كنت أشاهد احتراق ساحتنا الحبيبة ، التي استعدنا من خلالها حريتنا السليبة .ـ تلك الليلة لم أذهب للساحة لظروف قاهرة ، لكن حكايتي المقهورة معها بدأت من بعد صلاة المغرب عندما اتصل بي العديد من إخواني يخبروني بأن محاولة خبيثة تمارس الآن لاقتحام ساحة الحرية .
ــ عدت مسرعا إلى البيت لأشاهد قناة الجزيرة ، وفعلا رأيت مؤامرة حقيرة .. دبّرتها عصابة شريرة .

ـ خفت على إخواني جميعا في الساحة ، لكن خوفي كان أكثر على ثلاثة من أحبابي وإخواني وتوائم روحي الذين تركتهم هناك .. فبدأت أتصل بهم لأطمئن عليهم .

ـ الأخ الأول / السلام عليكم أخي .. أيش أخبارك ؟
أجابني بحشرجة ( أنا بخير ) لكن في محاولة الآن لاقتحام ساحتنا
استشهد وجرح العديد من إخواننا .
سألته : أين أنت الآن : أجابني في المقدمة .. أنقل الجرحى ، وأحاول أقنع الشباب أن يطلقوا سراح جندي مسكوا به .
سألته / كيف مسكوا بالجندي ؟؟
قال لي : كان يضرب علينا رصاصا حيا ، وبعد أن نفدت ذخيرته أمسكنا به
قلت له : أتمنى تحققوا معه وتطلقوا سراحه ، حتى لاتكون ذريعه للقتلة والمجرمين .

ـ أغلقت سماعة الهاتف ، وكررت الاتصال بهذا الأخ مرارا فلم أستطع
أيقنت بعدها بأنه استشهد .. لكن كان الأمل مبشرا عندما اتصلت به الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ، وسألته أين أنت الآن ؟
ـ أجابني وهو يبكي : أنا في زقاق لا نهاية له وربما يقبضوا عليّ
لكن يا أخي أحرقوا ساحتنا ، يا لها من لحظات مؤلمة ، والألم أكثر عندما أخبرني أخي هذا بأن أخونا ( زكي ) استشهد ، ثم قال لي : ليتني كنت استشهدت وأغلق الهاتف .

* الثاني : اتصلت به وهو يصيح ويكبر ، فسألته : أين أنت الآن يا أخي ؟
أجابني وهو يتنفس بصعوبة من آثار الغاز : أنا الآن أرجم المجرمين بالأحجار
خوفا من أن يقتحموا الساحة .. حاولت أن أنصحه بالإنسحاب ، خاصة وأنا أرى المصحفة تتقدم والضرب على فندق المجيدي ، لكنه قال لي بروح الصابر المحتسب : والله لن نسمح لهم بأن يقتحموا ساحتنا .. بعدها أغلق الهاتف ، واتصل بي الساعة الثانية ليلا وهو حزين والبكاء يردد في حلقه قائلا لي :

يا أخي أنا حزين جدا على اثنين ( عجم ) صم وبكم ، كانوا يرجمون معنا ولما رايناهم تأثروا من آثار الغاز ، سحبناهم إلى إحدى الخيام ، وغطيناهم وناموا .. فأنا أخشى أن يكونوا قد أحرقوا ، نظرا لأنهم لن يسمعوا صوت الرصاص والدبابة وهي تقترب منهم بسبب إعاقتهم السمعية .. وظل صاحبي هذا يتردد على الساحة بعد ذلك عله يرى هذين ( المعاقين ) وكان يراهما بصورة مستمرة قبل المحرقة .. لكن والله للأسف الشديد لم يرهما بعد المحرقة وحتى اليوم .. فصاحبي لا زال يتساءل ( أين الشابين المعاقين ؟ ! ).
* أما صديقي الثالث : فكان الأستاذ / خليل سفيان دينمو الساحة فقد بقيت أتواصل معه حتى الساعة الثانية قبل الفجر ، وكنا نخاف عليه كثيرا لأنه كان مستهدفا بالاسم من قبل المجرم قيران ، وعندما سألته أين أنت يا أخي قال لي بثقة المؤمن الصابر المحتسب : أنا الآن دخلت بيت أحد الأصدقاء المجاورين للساحة ، قلت له : حاول أن تحذر .. فقال لي : الله ينجينا منه ومن شره .

* أما الثلاثة الذين اتصلوا بي فقد كان من بعد صلاة الفجر على النحو التالي :
الأول : أحد الصحفيين يخبرني بأنه يشاهد حالا مرور دينات وأطقم عسكرية محملة ببطانيات وفرش وأجهزة تلفزيونات ومتجهين بها نحو إدارة الأمن .. فقلت له : قاتل الله النفوس الحقيرة ، ذات الأهداف الصغيرة ، الذين يقتلون أصحاب الأهداف الكبيرة ، والعقول المستنيرة ، من أجل فرش وبطانيات ولعاعة من الدنيا ، فهذا الفرق بين السارق والثائر .

الثاني : كانت أحدى الأخوات اتصلت تبكي بكاء شديدا لأنهم أخبروها بأن إمام المسجد المجاور لهم نزل يصلي بالناس تلك الليلة في الساحة فاستشهد ، وجلست تعدد لي الخصال الحميدة ، والمآثر الفريدة لهذا الأخ إمام المسجد ، فقلت لها : هنيئا للشهيد جنة الفردوس ، وتعسا لمن أزهق روحه الطاهرة البريئة .

الثالث : وكانت أكثر قهرا عندما اتصل بي أحد الإخوة القريبين من الساحة قائلا لي : مدرعة قيران الآن ـ وكان الوقت حوالي السابعة صباحا ـ هذه المدرعة تدور في الساحة ، شعرت حينها بأن السلمية قتلتنا ، مع عصابة لا تدرك إلا القوة .. ولا تتعامل إلا بعنجهية وحقد أسود .
ـ اللهم سود وجوههم ، واكسر شوكتهم ، واجعلهم عبرة لمن يعتبر.
رحمة الله على شهداء المحرقة .
ووالله لن ننسى !