لأغبياء فقط يفسرون اعتراضك على الهلوسة القومية المصاحبة لافتتاح تفريعة إضافية لقناة السويس، بانعدام الوطنية والانتماء، أو محاولة حرمان المصريين من فرح غائب وشحيح وضنين.
أما الأسوياء العقلاء فيدركون أن الأوطان لا تبنى على وهم، والأمم لا تتقدم بالقهر، والمشروعات القومية الكبرى لا تتأسس على الكيد والغيظ. وما رأيناه، ونراه حتى الآن، من صخب سفيه، يصاحب توسعة، تم تنفيذ أضعافه مرات في عصور سابقة، هو استمرار لمشروع الاستثمار في الجهل، والمضاربة بالدجل والشعوذة، والمقامرة بمدخرات المصريين، من أجل حفلة ماجنة لمنظومة حكم أراقت من الدماء ما يجعلها تفريعة حمراء، مهما وضعوا عليها من مساحيق التبييض والتجميل.
أما وقد ذهبت السكرة، فقد جاءت الفكرة، وبدأ العلم يقتنص مساحات ضئيلة على خارطة الشعوذة، ويواجه الشعب بحقيقة الخديعة التي لم يتركوا شيئا لتثبيتها، إلا واستخدموه، حتى الملائكة والأنبياء والرسل والنصوص المقدسة استعملوها في حفر خنادق الكذب وأخاديد النصب السياسي. غير أن أبشع ما في المشهد هو الاستخدام الرخيص لطفل مريض بالسرطان، ألبسوه الزي العسكري، وأخذوه لمرافقة الجنرال، ثم افترسوه تلفزيونيا ليردد مقولاتهم، بلا رحمة لمعاناته، أو شفقة بمرضه، حتى يصل الأمر ببعضهم إلى ادعاء أنه في طريقه للشفاء ببركة ومعجزة كراكات الحفر.
إن "عسكرة "طفل السرطان تبدو مثالاً صارخا لمشروع "أسطرة" الزعيم، بتحويله إلى تميمة وأيقونة للشفاء، الزعيم الذي بدأ حكمه بأسطورة جهاز الكفتة الذي يشفي كل الأمراض، ويحول الإيدز إلى طاقة ووقود وغذاء، بما يجعل دراما اسثمار الطفل لا تختلف كثيراً عن استثمار فني المعمل المسكين، الذي ألبسوه زي الجنرالات ومنحوه رتبة اللواء. واستمرارا لهذه النهج التغييبي، يخرج الفريق مميش رئيس هيئة القناة، ليقول "إن عبور السفن القناة الجديدة هو عبور أمة ودولة من الظلام للنور ومقياس للنجاح"، متابعًا "شعرت أن الملائكة بتمشى حوالينا واحنا ماشيين". الله لم يخلق الملائكة لتساعد القتلة والكذابين ومختطفي الأوطان، وسارقي الثورات، ومعذبي المسجونات والمساجين، حد الاغتصاب والموت، لكن هؤلاء لا يتورعون عن "عسكرة الملائكة"، واستدعائها لكيد المعارضة وإغاظتها، كما يعلن معسكر الكراكات وجمهور "الحفرجية" ممن يقيمون جدوى المشروعات بمدى قدرتها على المكايدة. ولو تابعت التصريحات الصادرة من معسكر المبتهجين بالتفريعة الجديدة، ستجدها تدور حول فكرة واحدة رئيسية، هي أن قيمة المشروع تنبع، بالنسبة لهم، من أنه ضربة للمعارضة، وخصوصا المنتمين للإخوان المسلمين، يستوي في ذلك وزير خارجية سابق، أو مجموعة من "فاشيست التوك شوز".
وفي مواجهة هذه الهستيريا، يعلق أحد الظرفاء بإطلاق دعوة تحمل شعار "اردمها يا سيسي"، فما دام الهدف الرئيس هو المكايدة والإغاظة، وإذا كان ذلك قد تحقق بفعل الحفر، فمن شأن "الردم" أن يغيظ ويكيد "الإخوان" أكثر. كانوا يعتقدون أن افتتاح التفريعة يعني دفن كل صور المعارضة، وإغراق كل مظاهر الاحتجاج على مشيئة الحكم العسكر في مياهها، غير أن ذلك كله تبخر مع اندلاع أوسع تظاهراتٍ تشهدها مصر أمس، رفضا لقانون الخدمة المدنية الذي سنه الجنرال، من دون برلمان ومن دون حوار مجتمعي، ومن دون حساب لردود الأفعال، أو على الأرجح، أنهم ظنوا أنهم نجحوا في استئصال جميع غدد الاحتجاج، وتدمير خلايا الوعي العام إلى الأبد. أن يخرج آلاف العمال والموظفين فيما أطلق عليه "ثورة عمالية"، ويسدون شوارع وسط القاهرة، وفي درجة حرارة قتلت 21 مصريا بأرقام وزارة الصحة، فهذا يؤكد أن مائة تفريعة لا تكفي لابتلاع صرخات الغضب ضد نظام يحكم بالعصا والتعويذة، ويعلن حقيقة واضحة كالشمس، تقول إن الاستبداد أوهن من أن يصادر حق الناس في حياة محترمة، لمجرد أنه حفر تفريعة، أو بنى أهرامات من الوهم والخرافة. سقطت أسطورة "لا صوت يعلو فوق صوت الكراكة"، وبدأت عملية استعادة الوعي المدفون تحت ملايين الأمتار المكعبة من الحفر.
"العربي الجديد"