شهد يدمي القلوب، اشتعال النار في سيارة النائب العام وموكبه، تماماً كما كان موجعاً مشهد ذوبان حديد سيارة ترحيلات أبو زعبل، واحتراق 37 مصريا داخلها. كلتاهما جريمة بشعة، ومدانة، وصادمة، ومثيرة للهلع والقلق من انزلاق مصر إلى جحيم.
بعد دقائق من إعلان نبأ الاعتداء على موكب النائب العام المصري، كانت حناجر كثيرة تصرخ: افرضوا الطوارئ فوراً، وأديروا كل ماكينات المحاكمات العسكرية.
بعد دقائق أخرى، ومع تغيير عناوين الأخبار من إصابات طفيفة، إلى حالة خطيرة، كانت حناجر أخرى تروج ما تسمى "المقاومة الشعبية" وتربط بينها وبين جماعة الإخوان.
بعد دقائق أقل عدداً، أعلنت ما تسمى "المقاومة الشعبية" أنها غير مسؤولة عن الحادث الإرهابي. وهنا وقبيل إعلان موت النائب العام بلحظات، تم تعميم خبر بصياغة واحدة على كل الصحف والمواقع، نشر في توقيت واحد عن حوار صامت داخل قفص محاكمة الرئيس محمد مرسي، زعم أنه أشار بعلامة الذبح.. وبالطبع، تحولت كل صحف عبد الفتاح السيسي إلى "خبراء تخاطب ولغة إشارة"، أو قل خبير واحد يظهر في الصحف كلها في اللحظة نفسها، يجزم بأن ترجمة إشارة الرئيس مرسي تعني أن الذبح سيكون مصير كل من يعادي معارضي الانقلاب.
أنت أمام استثمار سريع للغاية من السلطة لحادث قتل نائبها العام، إذ اشتغل "كونشرتو الدولتية"، متهما الإخوان، ومطالبا بتسريع الإعدامات، معلنا: انتهى عصر التحقيقات والمحاكمات، "أنا عاوز دم" كما قال غير واحد من أبواق إعلام النظام، في مناسبات عديدة سابقة.
وفي مقابل ذلك، كان هناك من يندفع نحو الحديث بيقين عن أن السلطة هي الفاعل، استباقا للحظة الثلاثين من يونيو التي استعد لها النظام بنحو ربع مليون من قوات الجيش والشرطة، ونشر مدرعاته ومجنزراته، بكثافة غير مسبوقة في كل أنحاء القاهرة، قبل اغتيال النائب العام بيومين على الأقل.
من المهم للغاية أن تقرأ الحدث على ضوء ثلاثة عناصر أساسية: الزمان والمكان والمناخ.
من حيث التوقيت، لا يمكن إغفال أن الجريمة تأتي قبل ساعات من الثلاثين من يونيو، ذكرى الثورة المضادة، المؤهلة للانقلاب. ويلاحظ، هنا، أن النظام تعامل مع المناسبة بنوع من الفزع، يصل إلى حد الرعب، على نحو دفع كل الجهات المشاركة في ما تعتبرها "الثورة المصرية العالمية الفريدة" إلى الإعلان عن إلغاء احتفالاتها الجماهيرية بها، منهم من قرر الاحتفال عبر البريد الإلكتروني، مدشناً مشروع الثلاثين مليون رسالة إلى العالم ضد الإخوان، ومنهم من اختار الاحتفال داخل مقرات حزبه، أو حركته، فيما حشدت لها الحكومة من قوات الأمن أكبر عدد عرفته مصر، منذ حرب أكتوبر 1973.
ومن حيث المكان: تأتي الضربة في عقر دار المؤسسة العسكرية، بجوار الكلية الحربية، وعلى مقربة من مقر المنطقة المركزية، ومنطقة التجنيد، والمقر الدائم لسكن وزير الدفاع، ناهيك عن أن حي مصر الجديدة هو حي الوزراء وكبار المسؤولين.
أما من حيث المناخ الإقليمي والمحلي، فمن السذاجة المفرطة ألا يضع المراقب هذه الجريمة في سياق جريمة تفجير المسجد في الكويت والمنتجع في سوسة (تونس)، في الفترة التي تعلن فيها إسرائيل التأهب والاستنفار للتعامل مع أسطول الحرية، المتجه لتحدي الحصار الظالم على الشعب الفلسطيني، إذ سيطرت قوات البحرية على أولى السفن، واعتقلت رئيسا عربيا سابقا، هو أحد تجليات الربيع العربي في تونس، الرئيس المنصف المرزوقي.
قبل سنوات، كان حادث الاعتداء على سفينة مرمرة التي أبحرت صوب غزة لكسر حصارها الخبر الأول في كل الصحف ومحطات التلفزة العربية والدولية.. أما اليوم فهو خبر درجة ثانية أو ثالثة، قبل اغتيال النائب العام المصري، ثم تراجع درجات أخرى، بعد اغتياله.
الثابت أنه قبل الاغتيال أن السلطة كانت تفاخر بأنها نجحت في تقليم أظافر الإرهاب، وشل حركته، بل وتباهي بسجلها من المذابح والمجازر ضد معارضيها الذين تصنفهم باعتبارهم "الإرهاب"، وقالت، في غطرسةٍ، إن من لا يخضع لجبروتها سيتلقى هدايا أخرى، من نوعية هدايا ميداني رابعة العدوية والنهضة وغيرها.
ماذا حدث، إذن، لكي يتفوق إرهاب التنظيمات المجهولة على إرهاب النظام، ويضربه في عرينه؟
ما الذي حدث، لكي يظهر "المستبد الفاشل" بهذا الهزال والهشاشة، ويترك ثغرة لمثل هذه الضربة الموجعة؟
أزعم أن عملية بهذه البشاعة، وبهذا المستوى من الاحترافية، لا يمكن أن تكون أبداً صناعة محلية.
إذا لم تكونوا قد قرأتم أحداث 1954، وتعرفتم على "فضيحة لافون"، أرجو أن تبحثوا عنها وتعيدوا قراءتها.
بالمناسبة، هل ظهرت "جريمة لافون" في حلقات مسلسل "حارة اليهود"، أم أن الجنرال، عفواً المخرج، حذفها لضرورات الأمن القومي؟
"العربي الجديد"