مقارنة بجارها لبنان كانت سوريا تبدو مستقرة، إذ كانت الحرب الأهلية قد مزقت لبنان في أغلب فترة السبعينات والثمانينات، وزاد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في سنة 2005 في إغراق البلد في مزيد من الفوضى. بيد أن المظاهر خداعة فسوريا الآن ممزقة والنظام يقاتل من أجل البقاء، في حين صمد لبنان أمام تدفق اللاجئين السوريين وبقية الضغوط الكبيرة الآتية من الحرب الأهلية في الجوار.
اختار الخبيران الاستراتيجيان نسيم نيكولاس طالب وجورج ف. تريفرتون، هذه المقارنة بين لبنان وسوريا، لتكون منطلق دراستهما عن أسباب الفوضى التي عمّت دولا كان ينظر إليها على أنّها مستقرّة وهادئة. وقد عنون الباحثان دراستهما، التي اختيرت من بين أفضل منشورات مجلة شؤون دولية، الصادرة عن مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، “الهدوء الذي يسبق العاصفة، التقلبات تدل على الاستقرار والعكس صحيح”.
ويلخّص هذا العنوان فكرة الدراسة، التي يستهلها طالب وتريفرتون، بالتساؤل: لماذا تحولت سوريا التي كانت تبدو مستقرة إلى نظام هش، في حين برهن لبنان الغارق دوما في الاضطرابات على الكثير من الصلابة إلى حد الآن.
والجواب يأتي بوضوح، على امتداد سطور الدراسة، ليفسر أن سوريا ما قبل الحرب الأهلية لم تكن تظهر إلا استقرارا زائفا، إذ كانت واجهتها الهادئة تخفي نقاط ضعف هيكلي عميق.
ومن المفارقات أن الفوضى في لبنان كانت علامة على القوة إذ ساعدت الحرب الأهلية على لامركزية الدولة وأتت بهيكلة حكم تتقاسم فيه جميع الطوائف السلطة؛ هذا إضافة إلى صغر حجم البلد واقتصاد السوق الحرة المعتمد.
وهذا يتناقض مع الوضع في سوريا حيث سعى حزب البعث الحاكم إلى السيطرة على التنوع الاقتصادي مع اعتماد صلابة الهيكلة على الطراز السوفييتي مما جعل سوريا (والعراق، الدولة البعثية الأخرى) أكثر عرضة للقلاقل من لبنان.
وحسب الباحثين، تتمثل أكبر نقطة ضعف في سوريا في أنها لم تمر بتجربة التعافي من حالة اضطراب سابقة وذلك لأن البلدان التي تجاوزت حالات سابقة من الفوضى عادة ما تكون محصنة ضد حالات مماثلة في المستقبل. ومن ثم يصلان إلى استنتاج أن أحسن مؤشر على الاستقرار المستقبلي لبلد ما ليس الاستقرار الماضي لكن التقلب المعتدل في الماضي القريب نسبيا. وهنا يستشهد الباحث نسيم نيكولاس طالب بما جاء في كتابه “البجعة السوداء”، الصادر في سنة 2007، بخصوص أن “الأنظمة التي تبدو غير متقلبة مثل سوريا تواجه مخاطر أكبر للفوضى من إيطاليا مثلا نظرا لأن الأخيرة في حالة اضطراب سياسي متواصل منذ الحرب العالمية الثانية”.
وتبعا لذلك، عند تقييم مخاطر حدوث الاضطرابات في الدول يجب اعتماد طريقة مختلفة عن النظر إلى التجارب السابقة. ومن الأجدى التركيز على كيفية تعامل الأنظمة مع الفوضى، أو بعبارة أخرى دراسة مدى هشاشتها.
وهنا نجد أن بعض الأنظمة السياسية يمكنها تحمل قدر كبير من الضغط بينما تتفكك غيرها عند حدوث أقل مشكل.
والهشاشة، وفق الباحثين، تكره الفوضى لأن الأشياء الهشة لا تحب التنوع والتغير والضغط والأحداث الاعتباطية. وبالنسبة إلى الدول هناك خمسة مصادر رئيسية للهشاشة: نظام حكم مركزي واقتصاد غير متنوع وتدين متشدّد وغياب التغير السياسي وغياب التجربة في تجاوز الصدمات السابقة. وبناء على هذه المقاييس يتضح أن الأنظمة التي تعاني من المشاكل تصمد أكثر مما نظن، بينما الدول المستقرة ظاهريا يتضح أنها قنابل موقوتة.
مركزية النظام
المشكل في مركزية النظام هو أنه بالرغم أن المركزية تنقص من إمكانية حدوث الانحرافات عن المقاييس فإنها تضخم نتائج هذه الانحرافات عند حدوثها وذلك بتركيز الاضطرابات في حلقات أقل عددا لكنها أعنف، ومن ثم أكثر ضررا من التغيرات الصغيرة المتراكمة. وبناء على ذلك نجد الدول ذات المركزية العالية مثل الاتحاد السوفييتي أكثر هشاشة من الدول غير المركزية مثل سويسرا. وعادة ما يكون هدف الدول التي تعتمد مركزية السلطة هو منع التوتر الطائفي، وهذا الإخفاق في التعامل مع التنوع، سواء كان سياسيا أم إثنيا ودينيا، يزيد في هشاشة هذه الدول. في مثل هذا الوضع تنشأ مجموعة أقلية تشعر بالسخط وتتخمر بصمت.
نقطة الضعف الثانية تتمثل في غياب التنوع الاقتصادي، حيث يرى الباحثان أن التركيز الاقتصادي يمكن أن يكون أكثر ضررا من المركزية السياسية، وذلك لأنه حتى تكون الدولة آمنة يجب ألا تسبب خسارة مصدر وحيد للدخل في ضرر كبير لوضعها الاقتصادي العام.
وفي هذا السياق الأماكن المعتمدة على السياحة مثلا معرضة بشكل خاص لعدم الاستقرار (مثلما اكتشفت اليونان على إثر الأزمة الاقتصادية واكتشفت مصر بعد الثورة).
أما المصدر الثالث للهشاشة فهو ذو طبيعة اقتصادية ويتمثل في المديونية الكبيرة لأن المديونية تجعل كيانا ما أكثر حساسية لهبوط المداخيل وتزداد درجة الحساسية كلما تسارع هذا الهبوط. وربما تكون الديون التي تصدرها الدولة نفسها أسوأ أنواع الديون لأنها لا تتحول إلى أسهم، بل تصبح عبئا دائما. وليس من السهل إفلاس الدول، وهذا هو السبب الأساسي الذي يدفع الناس إلى إقراضها معتقدين أن استثماراتهم آمنة.
رابع مصدر للهشاشة يتمثل في غياب التغير السياسي فخلافا للحكمة التقليدية، تمر البلدان المستقرة حقيقة بتغيرات سياسية معتدلة تؤدي إلى تغيير الحكومات باستمرار وتبديل التوجهات السياسية. وعن طريق الاستجابة للضغوط في الجسم السياسي تعزز هذه التغيرات الاستقرار شرط ألا تكون درجة قوتها كبيرة جدا.
التغيير المعتدل
إن التغيير السياسي المعتدل يزيح زعماء معينين من السلطة وبذلك يخفض من المحسوبية في السياسة. وعندما تكون الدولة غير مركزية تكون التغيرات ألطف نظرا لأن البلديات توزع سلطة صنع القرار وتسمح بتعددية وجهات النظر السياسية.
ويجادل الباحثان بأن التغير السياسي هو ما يجعل الديمقراطيات أقل هشاشة من الأنظمة الفردية، والمثال على ذلك إيطاليا التي صمدت بالتحديد لأنها تمكنت من استيعاب الاضطراب السياسي المستمر، وهو ما يدرب المواطنين على التغيير ويهيئ المؤسسات القادرة على التعديل لمواجهة درجة معتدلة من عدم الاستقرار.
العلامة الخامسة على الهشاشة هي غياب التجربة في تجاوز الصدمات الكبرى. وبناء على ذلك نجد أن البلدان التي مرت بالسيناريو الأسوأ في الماضي القريب (لنقل في العقدين الماضيين) وتعافت منه من الأرجح أن تكون أكثر استقرارا من تلك الدول التي لم تشهد مثل تلك التجربة.
ويمكن تفسير ذلك بكون البلدان التي تتحمل الفوضى دون أن تتفكك تكشف عن جانب من قوتها لا يمكن اكتشافه
بشكل آخر؛ هذا بالإضافة إلى اكتساب مناعة ضد الهشاشة حيث أن الصدمات تلقن الدول درسا. ويخلص الباحثان إلى أن هذه العلامات لا تتعدى أن تكون إشارات تحذيرية، فهي لا تستطيع أن تحدد لنا بثقة كبيرة مدى استقرار بلد ما لكنها تستطيع بالتأكيد الكشف عن مدى إثارة بلد ما للقلق.
اختار الخبيران الاستراتيجيان نسيم نيكولاس طالب وجورج ف. تريفرتون، هذه المقارنة بين لبنان وسوريا، لتكون منطلق دراستهما عن أسباب الفوضى التي عمّت دولا كان ينظر إليها على أنّها مستقرّة وهادئة. وقد عنون الباحثان دراستهما، التي اختيرت من بين أفضل منشورات مجلة شؤون دولية، الصادرة عن مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، “الهدوء الذي يسبق العاصفة، التقلبات تدل على الاستقرار والعكس صحيح”.
ويلخّص هذا العنوان فكرة الدراسة، التي يستهلها طالب وتريفرتون، بالتساؤل: لماذا تحولت سوريا التي كانت تبدو مستقرة إلى نظام هش، في حين برهن لبنان الغارق دوما في الاضطرابات على الكثير من الصلابة إلى حد الآن.
والجواب يأتي بوضوح، على امتداد سطور الدراسة، ليفسر أن سوريا ما قبل الحرب الأهلية لم تكن تظهر إلا استقرارا زائفا، إذ كانت واجهتها الهادئة تخفي نقاط ضعف هيكلي عميق.
ومن المفارقات أن الفوضى في لبنان كانت علامة على القوة إذ ساعدت الحرب الأهلية على لامركزية الدولة وأتت بهيكلة حكم تتقاسم فيه جميع الطوائف السلطة؛ هذا إضافة إلى صغر حجم البلد واقتصاد السوق الحرة المعتمد.
وهذا يتناقض مع الوضع في سوريا حيث سعى حزب البعث الحاكم إلى السيطرة على التنوع الاقتصادي مع اعتماد صلابة الهيكلة على الطراز السوفييتي مما جعل سوريا (والعراق، الدولة البعثية الأخرى) أكثر عرضة للقلاقل من لبنان.
وحسب الباحثين، تتمثل أكبر نقطة ضعف في سوريا في أنها لم تمر بتجربة التعافي من حالة اضطراب سابقة وذلك لأن البلدان التي تجاوزت حالات سابقة من الفوضى عادة ما تكون محصنة ضد حالات مماثلة في المستقبل. ومن ثم يصلان إلى استنتاج أن أحسن مؤشر على الاستقرار المستقبلي لبلد ما ليس الاستقرار الماضي لكن التقلب المعتدل في الماضي القريب نسبيا. وهنا يستشهد الباحث نسيم نيكولاس طالب بما جاء في كتابه “البجعة السوداء”، الصادر في سنة 2007، بخصوص أن “الأنظمة التي تبدو غير متقلبة مثل سوريا تواجه مخاطر أكبر للفوضى من إيطاليا مثلا نظرا لأن الأخيرة في حالة اضطراب سياسي متواصل منذ الحرب العالمية الثانية”.
وتبعا لذلك، عند تقييم مخاطر حدوث الاضطرابات في الدول يجب اعتماد طريقة مختلفة عن النظر إلى التجارب السابقة. ومن الأجدى التركيز على كيفية تعامل الأنظمة مع الفوضى، أو بعبارة أخرى دراسة مدى هشاشتها.
وهنا نجد أن بعض الأنظمة السياسية يمكنها تحمل قدر كبير من الضغط بينما تتفكك غيرها عند حدوث أقل مشكل.
والهشاشة، وفق الباحثين، تكره الفوضى لأن الأشياء الهشة لا تحب التنوع والتغير والضغط والأحداث الاعتباطية. وبالنسبة إلى الدول هناك خمسة مصادر رئيسية للهشاشة: نظام حكم مركزي واقتصاد غير متنوع وتدين متشدّد وغياب التغير السياسي وغياب التجربة في تجاوز الصدمات السابقة. وبناء على هذه المقاييس يتضح أن الأنظمة التي تعاني من المشاكل تصمد أكثر مما نظن، بينما الدول المستقرة ظاهريا يتضح أنها قنابل موقوتة.
مركزية النظام
المشكل في مركزية النظام هو أنه بالرغم أن المركزية تنقص من إمكانية حدوث الانحرافات عن المقاييس فإنها تضخم نتائج هذه الانحرافات عند حدوثها وذلك بتركيز الاضطرابات في حلقات أقل عددا لكنها أعنف، ومن ثم أكثر ضررا من التغيرات الصغيرة المتراكمة. وبناء على ذلك نجد الدول ذات المركزية العالية مثل الاتحاد السوفييتي أكثر هشاشة من الدول غير المركزية مثل سويسرا. وعادة ما يكون هدف الدول التي تعتمد مركزية السلطة هو منع التوتر الطائفي، وهذا الإخفاق في التعامل مع التنوع، سواء كان سياسيا أم إثنيا ودينيا، يزيد في هشاشة هذه الدول. في مثل هذا الوضع تنشأ مجموعة أقلية تشعر بالسخط وتتخمر بصمت.
نقطة الضعف الثانية تتمثل في غياب التنوع الاقتصادي، حيث يرى الباحثان أن التركيز الاقتصادي يمكن أن يكون أكثر ضررا من المركزية السياسية، وذلك لأنه حتى تكون الدولة آمنة يجب ألا تسبب خسارة مصدر وحيد للدخل في ضرر كبير لوضعها الاقتصادي العام.
وفي هذا السياق الأماكن المعتمدة على السياحة مثلا معرضة بشكل خاص لعدم الاستقرار (مثلما اكتشفت اليونان على إثر الأزمة الاقتصادية واكتشفت مصر بعد الثورة).
أما المصدر الثالث للهشاشة فهو ذو طبيعة اقتصادية ويتمثل في المديونية الكبيرة لأن المديونية تجعل كيانا ما أكثر حساسية لهبوط المداخيل وتزداد درجة الحساسية كلما تسارع هذا الهبوط. وربما تكون الديون التي تصدرها الدولة نفسها أسوأ أنواع الديون لأنها لا تتحول إلى أسهم، بل تصبح عبئا دائما. وليس من السهل إفلاس الدول، وهذا هو السبب الأساسي الذي يدفع الناس إلى إقراضها معتقدين أن استثماراتهم آمنة.
رابع مصدر للهشاشة يتمثل في غياب التغير السياسي فخلافا للحكمة التقليدية، تمر البلدان المستقرة حقيقة بتغيرات سياسية معتدلة تؤدي إلى تغيير الحكومات باستمرار وتبديل التوجهات السياسية. وعن طريق الاستجابة للضغوط في الجسم السياسي تعزز هذه التغيرات الاستقرار شرط ألا تكون درجة قوتها كبيرة جدا.
التغيير المعتدل
إن التغيير السياسي المعتدل يزيح زعماء معينين من السلطة وبذلك يخفض من المحسوبية في السياسة. وعندما تكون الدولة غير مركزية تكون التغيرات ألطف نظرا لأن البلديات توزع سلطة صنع القرار وتسمح بتعددية وجهات النظر السياسية.
ويجادل الباحثان بأن التغير السياسي هو ما يجعل الديمقراطيات أقل هشاشة من الأنظمة الفردية، والمثال على ذلك إيطاليا التي صمدت بالتحديد لأنها تمكنت من استيعاب الاضطراب السياسي المستمر، وهو ما يدرب المواطنين على التغيير ويهيئ المؤسسات القادرة على التعديل لمواجهة درجة معتدلة من عدم الاستقرار.
العلامة الخامسة على الهشاشة هي غياب التجربة في تجاوز الصدمات الكبرى. وبناء على ذلك نجد أن البلدان التي مرت بالسيناريو الأسوأ في الماضي القريب (لنقل في العقدين الماضيين) وتعافت منه من الأرجح أن تكون أكثر استقرارا من تلك الدول التي لم تشهد مثل تلك التجربة.
ويمكن تفسير ذلك بكون البلدان التي تتحمل الفوضى دون أن تتفكك تكشف عن جانب من قوتها لا يمكن اكتشافه
بشكل آخر؛ هذا بالإضافة إلى اكتساب مناعة ضد الهشاشة حيث أن الصدمات تلقن الدول درسا. ويخلص الباحثان إلى أن هذه العلامات لا تتعدى أن تكون إشارات تحذيرية، فهي لا تستطيع أن تحدد لنا بثقة كبيرة مدى استقرار بلد ما لكنها تستطيع بالتأكيد الكشف عن مدى إثارة بلد ما للقلق.