الرئيسية / تقارير وحوارات / حكايتان من كتاب أسرى عدن
حكايتان من كتاب أسرى عدن

حكايتان من كتاب أسرى عدن

26 ديسمبر 2015 08:30 صباحا (يمن برس)
في حي العيدروس، حيث تنتصب مئذنة مسجد العيدروس التاريخية، (1274 هجرية) بمدينة كريتر، محافظة عدن، جنوبي اليمن، كان الشارع يعج بالحياة، فأصوات الباعة وأبواق السيارات ولهو الأطفال، وفرحتهم بعودة الأسرى من أبناء الحي، أشعرتني أن الأمكنة تتسع للمزيد من البهجة، كعادة درج عليها أبناء الحي في مناسبات مختلفة.

دقائق قليلة، وجدت نفسي فيها، أمام منزل ل اثنين من الأسرى المفرج عنهم مؤخراً من سجون ميليشيات الحوثي وصالح، «شادي الزغير، وناصر جابر».

حكايتان من كتاب المعذبين في الأسر والاعتقال.

كان شادي محمد سعد الزغير (22 عاماً) منهكاً نوعاً ما، وهو يتحدث لصحيفة «الخليج»، ربما لتعب وألم المعتقل، أو لكثرة المترددين لزيارته عقب عودته إلى أحضان أهله وأبناء مدينته. يقول شادي في 7 أبريل/ نيسان الماضي، نحو السابعة مساء، كنت كعادتي أمارس عملي في مساعدة الجرحى والتخفيف من معاناتهم عبر نقلي للأدوية والاحتياجات الطبية اللازمة، ضمن مجموعة «متطوعين» من نشطاء المجتمع المدني، استوقفتني نقطة أمنية تابعة للحوثيين، بينما كنت في طريقي إلى مستشفى باصهيب العسكري بمدينة التواهي، وفور مشاهدتهم للأدوية التي كانت بحوزتي، تم احتجازي، ونقلي مباشرة إلى فندق أزال على الطريق بين محافظتي عدن ولحج، وهناك خضعت للتحقيق والأسئلة من قبيل«تشتغل مع من؟ ومن أين تأتي بالأدوية، وماهي الجهات التي تدعمكم؟ وغيرها، قبل أن يتم نقلي في اليوم التالي إلى قاعدة العند الجوية 60 كم إلى الشمال من عدن.

هناك وجدنا أعداداً كبرى من الأسرى، والملفت أن أكثر من 95 % هم من المواطنين الذين جمعوا من الشوارع والطرقات، وليس لهم علاقة البتة بالمعارك والمواجهات التي كانت على أشدها في ذلك الوقت، مع التأكيد أن النسبة الباقية، أسروا عبر مداهمة منازلهم بعد السؤال والتحري عن منازلهم.

دروع بشرية

يتذكر شادي بحسرة وألم، الأيام الأولى لاعتقاله، فيقول أكثر ما كان يشغلني طوال مدة أسري في العند (4 أشهر)، أن أهلي لا يعرفون عني شيئاً، حياً كنت، أو ميتاً ؟ وبالمقابل لا أعرف عنهم ولا عن مصيرهم، فضلاً عن الأخبار الصادمة التي كان ينقلها لنا من يتم أسرهم، خصوصاً بعد سيطرة الحوثيين على المعلا التواهي والقلوعة وانتشار حمى الضنك والهلاك الذي أصاب معظم الأسر.

يأخذ شادي نفساً عميقاً، قبل أن يستطرد حديثه، قائلاً:«إلى جانب انقطاع التواصل مع أهلي وأقاربي، كان الخطر يهدد حياتنا بين الفينة والأخرى، خصوصاً وعنابر السجن التي وضعنا فيها، تحت مرمى الطيران، فلا يزال دوي الانفجارات الهائلة التي يحدثها القصف، يصم أذني، ومشاهد الرعب والهلع التي كنت أقرأها في عيون زملائي، لم تبارح مخيلتي.

كانت أيام هلع وخوف لا يمكن لأحد أن يتخيلها إلا من عاش لحظاتها، أو اكتوى بتفاصيل أحزانها، ثم يتمتم شادي بصوتٍ محشرجٍ:«رحم الله زملائي الذين لقوا حتفهم هناك».

يتوقف شادي برهة، ثم يكفكف دموعه، وهو يستعرض ساعات يوم 5 مايو/أيار الذي لقي فيه 7 من الأسرى مصرعهم، إضافة إلى إصابة 30، بعد أن وضعتهم ميليشيات الحوثي كدروع بشرية لقصف الطائرات، فيقول:«كان من الأيام العصيبة، الذي ستلازمني تفاصيله طويلاً، وستلازمني لحظاته حتى أوارى لحدي. ويضيف: بدأ 400 أسير يومهم كما جرت العادة في انتظار وجبة الإفطار «بسكويت وبعض الماء»، وبينما كنا على حالتنا تلك، فجأة سمعنا أزيز الطائرة، هرب الحوثيون إلى مخابئهم، وتركونا عرضة للقصف، وماهي إلا لحظات حتى هزت الصواريخ أرجاء المكان، فوقع أحدها بالقرب منا على بعد 100 متر تقريباً، فأصابت بعض الشظايا عدداً كبيراً من الأسرى، حيث استشهد 7 وأصيب 30 آخرون، كان منظر الدماء والجثث «مؤلماً» لأناس أبرياء ليس لهم علاقة بالحرب ولا بالمواجهات، وجريرتهم الوحيدة أنهم «أسرى» من المدنيين احتجزتهم ميليشيات تجردت من كل معاني القيم والإنسانية.

زنازين صنعاء

حسبي في ذلك اليوم أنني قمت بمساعدة الكثير من الجرحى والتخفيف من معاناتهم بحكم خبرتي البسيطة في مجال الإسعافات، التي اكتسبتها في الأيام الأولى للحرب. يستطرد شادي حديثه بالقول، في ثاني أيام عيد الفطر، نقلنا إلى صنعاء بعد أن شعرت الميليشيات أن تحرير قاعدة العند الجوية باتت مسالة وقت، وحينها لم نكن على علم بالانتصارات التي تحققت في عدن ولحج، فقط قيل لنا سننقلكم إلى مكان آمن، وقد كنا طوال الأربعة الأشهر التي قضيناها في قاعدة العند تحت مرمى الطائرات، ودوي الانفجارات.

هناك «زج» بنا، في غياهب سجون الأمن المركزي، الذي بمجرد دخولك في بوابته، تشعر وكأن هموم وآلام العالم كله قد اجتمعت في رأسك، كان الخوف والرعب يسيطران على أغلب الأسرى، كنا نشعر أن خلافاً يدب أحياناً بين الحوثيين، لا نعلم أسبابه، ومعه ترتفع مخاوفنا إلى درجة كبرى، خشية أن يفجر أحدهم غضبه فينا، فضلاً عن أننا «أخفينا» حينها، ولا أحد يعرف مصيرنا.

الشعور بالخوف والقلق بدأ يتلاشى تدريجياً بعد مرور شهرين من وصولنا لصنعاء، وبالذات حين سمح لوزير مخرجات الحوار الوطني، غالب مطلق من التقاط صور للأسرى، ونشرها في الصحف والمواقع، وما تبع ذلك من تبادل الاتصالات مع الأهل والأقارب وهكذا.

يوم أخبرونا فيه منتصف شهر ديسمبر أن عملية تبادل الأسرى ستتم مع رجال المقاومة، كنا نعيش لحظات ترقب وخوف خشية أن تتعثر العملية كما تعثرت قبلها محاولات كثيرة، لكن بمجرد رؤيتي لعدد كبير من أصدقائي في الأسر، ممن أفرج عنهم سابقاً في منطقة تبادل الأسرى، وفي مقدمتهم الشيخ «عبد الحكيم الحسني»، انفرجت أسارير وجهي، ولم أتمالك دموعي من الفرح، وأجهشنا جميعاً بالبكاء لشعورنا أن يوماً جديداً للحياة قد بدأ، وأن فصلاً من فصول العمل وخدمة الوطن قد تجلى. وبالمناسبة أشكر كل من قاموا بأجل واجباتهم الدينية والإنسانية تجاه الأسرى، وكانوا سبباً في رسم الابتسامة على محيا أهلنا وأحبائنا في كل مكان، فلهم جميعاً أسمى آيات الشكر والعرفان.

اعتقال عشوائي

لم يشفع لناصر محمد عبد الله، الشهير، «بأيوب» (35 عاماً)، أعمال الخير والمساعدات التي كان يقدمها لمواطني عدن، والمتمثلة في إخراجه ونقله لأسر عدة، من أماكن الاشتباكات، على متن حافلته الصغيرة 15 راكباً، نحو أماكن أكثر أماناً.. يروي «أيوب» تفاصيل يوم اعتقاله فيقول:«في 30 يونيو / حزيران أردت نقل أسرة من عدن إلى محافظة تعز، أوقفت عند آخر نقطة بين محافظتي عدن وتعز، حيث طلب الجنود من الأسرة النزول، وضمان توصيلهم عبر حافلة نقل أخرى، إلا أن طلبهم رفض، حينها أخذوا بطاقتي الشخصية، ولما قرؤوا اسمي، قالوا:»لماذا ينادونك أيوب وأنت اسمك ناصر، قلت لهم هذا اسم الشهرة، لم يقتنعوا بالأمر، ربما اعتبروه اسماً حركياً، ثم أخذوا هاتفي أيضاً، وطلبوا مني العودة إليهم«.

لم أتمكن من العودة في نفس اليوم لبعد المسافة بين عدن وتعز، لكنني عدت في اليوم التالي، وقد هموا بالذهاب إلى الحي الذي أسكن فيه وإلقاء القبض على أحد أشقائي من خلال معرفتهم بعنواني في البطاقة الشخصية، ليتم بعدها اقتيادي إلى»فيلا«قبالة السفارة الصينية في مدينة خور مكسر، ومكثت هناك 12 يوماً، برفقة 70 أسيراً حشروا في مساحة ضيقة جداً، أغلبهم، إن لم يكن جميعهم أخذوا من الأسواق والشوارع، ولم يكونوا في جبهات القتال.

يقول أيوب: في هذا المكان ذقنا العذاب بألوان عدة، فمن التعذيب والضرب والهزات الكهربائية التي كنا نتعرض لها أثناء التحقيق، وصياح وأوجاع الأسرى، إلى أساليب التجويع المتعمد والعطش بسب عدم توفير الماء والأكل، حيث تعطى قنينة ماء بلتر واحد لخمسة أشخاص، ولك أن تتخيل كيف يكون الأمر في ظل حرارة صيف مرتفعة جداً.

تعذيب حتى الموت

يتذكر أيوب، وفاة أحد الأسرى من محافظة حضرموت بسبب شدة التعذيب، فيقول: أخذ أحد الأشخاص لا يحضرني اسمه الآن، إلى غرفة قريبة منا، كنا نسمع صياحه وهو يُعذب، وترتعد فرائصنا مع كل صيحة يطلقها، ومع اقتراب الساعة من الثانية فجراً، هدأ الصوت ولم نعد نسمع شيئاً، بعد أن تأكدنا أن الحوثيين قد غادروا المكان اتجهنا وكنا 10 أشخاص إلى الغرفة التي يعاد فيها التحقيق مع الأسرى، هناك وجدنا جسد الحضرمي مرمياً وآثار التعذيب بادية على كل أجزاء جسمه، لقد صمت نبض الحضرمي، وانزوت دقات قلبه بعيداً عنا، عرفنا حينها أنه قد فارق الحياة، ولا سامح الله من قام بتعذيبه.

بعد مرور 12 يوماً من مدة اعتقالي، نقلت إلى قاعدة العند الجوية، هكذا يستطرد أيوب حديثه للصحيفة، هناك كانت المأساة أكبر، والمعاناة أبلغ، الأعداد الكبرى من الأسرى من محافظات عدن وأبين ولحج، وضعوا في عنابر مفتوحة، يفترشون العراء ويلتحفون السماء، وسط أجواء حارة جداً، وظروف صحية وغذائية غاية في السوء والتعقيد.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد فحسب، ولكن تركنا عرضة لضربات الطيران، كنا نشعر بالموت في كل ساعة أو لحظة يحلق الطيران فيها فوق القاعدة الجوية، لكن المكان الذي احتجزت به قصف مرة واحدة، كان ذلك في أول أيام عيد الفطر، وصلت شظايا الغارات الجوية إلينا رغم وقوعها بعيدة عنا، وأصبت بشظية في فخذي لم أتأثر بها كثيراً، قبل أن يتم نقلنا إلى صنعاء في اليوم التالي، دون أن يشعرونا بالجهة التي سيتم نقلنا إليها.

تحركنا بعد العصر في حافلات «معكسة»، محجوبة الرؤية، ووصلنا صنعاء نحو الثالثة فجراً، وهناك تم تقييدنا بالسلاسل والحديد وكنا نتلقى محاضرات كثيرة من قبيل قال»سيدي حسين»يقصد، حسين بدر الدين والحوثي، مرت الأيام صعبة جداً علينا، إلى أن سُمح لنا بالتواصل مع أهلنا عبر الهاتف، وصولاً إلى إطلاق سراحنا، ولله الحمد والشكر.

وعن لحظة وصوله ومقابلته لأهله وأصدقائه، يقول «أيوب» هي لحظات للتاريخ والذكرى، فحين ترى مظاهر الاستقبال والفرح تحيط بك من كل مكان وجانب، فهو شعور ولاشك لا يضاهيه شعور، وحين ترتمي في حضن أمك وتقر عينها برؤيتك مجدداً، فهذا عمر جديد وحياة أخرى نسأل الله فيها الخير لنا ولوطننا.
شارك الخبر