في صدمة تاريخية تهز ضمير الأمة، تكشف الأرقام الموثقة أن اللغة التي كانت قبل 1400 عام تحكم العالم وتنتج المعرفة، باتت اليوم تساهم بأقل من 1% من المحتوى العلمي العالمي! هذه حقيقة مرعبة تضعنا أمام سؤال مصيري: هل سنشهد انقراض لغة القرآن كما انقرضت اللاتينية؟ كل يوم يمر دون استثمار حقيقي في إحياء العربية هو خطوة نحو مصير مأساوي لا رجعة فيه.
في عام 81 هجرية، اتخذ الخليفة عبدالملك بن مروان قراراً غيّر وجه التاريخ: تعريب الدواوين، محولاً العربية من مجرد لغة قبلية إلى لغة إمبراطورية تحكم العالم. "إتقان العربية يعني التواصل مع العالم بأسره"، هكذا قال المستشرق الفرنسي غيوم بوستل عام 1539، بينما اضطر ماركو بولو لتعلم العربية لتسهيل تجارته عبر طرق الحرير. واليوم؟ أحمد، مدرّس الطب البالغ 45 عاماً، يقف عاجزاً أمام طلابه يشرح بالإنجليزية تخصصاً يحتاج لشرحه بلسان أمه، يقول بحسرة: "أشعر وكأنني غريب في بلدي عندما أفكر طبياً بالإنجليزية وأعيش بالعربية".
ما حدث للعربية لم يكن صدفة، بل نتيجة سياسات ممنهجة بدأت مع اختيار العثمانيين للتركية بديلاً عنها، ثم تسارعت مع الاستعمار الذي فرض لغات المستعمرين. وبينما نجحت اليابان والصين في الحفاظ على لغتيهما مع التطور العلمي من خلال استثمارات ضخمة في الترجمة المنهجية، اختارت النخب العربية الهروب من التحدي. تتذكر د. ليلى الباحثة المتخصصة في الترجمة العلمية: "عندما بدأت ترجمة أحدث البحوث الطبية للعربية، قوبلت بالسخرية: 'لماذا تضيعين وقتك؟ الإنجليزية أسهل!'"
في مشهد مؤلم يتكرر يومياً، تجلس سارة الطالبة الجامعية البالغة 22 عاماً في قاعة المحاضرة وهي تكافح مع المصطلحات الهندسية الإنجليزية، همسات التوتر تملأ المكان بينما تحاول ربط ما تسمعه بواقعها العربي. الصورة المؤلمة تتكرر في آلاف القاعات: جيل كامل ينمو منفصلاً عن لغة هويته، يفكر بالإنجليزية ويحلم بالعربية. د. محمد اللغوي، أستاذ اللسانيات التطبيقية، يحذر بقلق: "إذا استمر هذا الوضع، سنفقد خلال 30 عاماً جيلاً كاملاً قادراً على الإبداع العلمي بالعربية". النتائج كارثية: انحصار العربية في الشؤون الدينية والإعلامية، بينما تهيمن الإنجليزية على كل ما هو علمي وتقني واقتصادي.
لكن قصص النجاح العالمية تؤكد أن المعجزة ممكنة. فرنسا واجهت نفس التحدي وانتصرت بقوانين صارمة واستثمارات ضخمة جعلت الفرنسية لغة حية ومتطورة رغم هيمنة الإنجليزية. اليابان والصين برهنتا أن التقدم العلمي لا يعني التخلي عن اللغة الأم، بل يتطلب ترجمة منهجية وإرادة سياسية حقيقية. إن مستقبل العربية ليس حلماً بعيد المنال، بل مشروع قومي يحتاج لقرار سياسي جريء واستثمار حضاري حقيقي. الاختيار اليوم واضح ومصيري: إما نهضة لغوية تعيد للعربية مكانتها العالمية، وإما تحولها إلى مجرد ذكرى في متاحف اللغات المنقرضة.