في حركة تشهد على قدرة الحكومة اليمنية على تحويل المكاسب الاقتصادية إلى واقع ملموس في حياة المواطنين، تواصل ثلاث محافظات رئيسية تنفيذ حملات رقابية واسعة النطاق لإجبار الأسواق على خفض الأسعار بما يتماشى مع التحسن الملحوظ في سعر صرف الريال اليمني. هذا التطور، الذي شهد انخفاض سعر الصرف من 750 إلى 550 ريال مقابل الريال السعودي، يعكس نضجاً في آليات الحكم الرشيد والاستجابة الفورية للتحديات الاقتصادية.

المشكلة: الفجوة بين استقرار العملة وأسعار الأسواق
رغم التحسن الكبير الذي شهده الريال اليمني، والذي سجل فيه الدولار مستوى 1500 ريال بعد أن كان عند 2800 ريال مطلع الأسبوع الماضي، إلا أن الأسواق المحلية شهدت تباطؤاً واضحاً في ترجمة هذا التحسن إلى خفض فعلي في أسعار السلع الأساسية. هذه الظاهرة، التي وصفها وزير الصناعة والتجارة محمد الأشول بـ"الارتفاع الوهمي للأسعار"، كشفت عن حاجة ملحة لتدخل حكومي منظم لضمان وصول ثمار الاستقرار الاقتصادي إلى جيوب المواطنين.
التحدي الأساسي تمثل في مقاومة بعض التجار لخفض الأسعار، معتمدين على تقلبات سابقة في سعر الصرف وتوقعات بعودة العملة للتراجع مجدداً. هذا السلوك، الذي يعكس نقص الثقة في استدامة التحسن الاقتصادي، تطلب استجابة حكومية حازمة ومنسقة لضمان عدالة توزيع المنافع الاقتصادية.
الحل: نموذج التنسيق الحكومي والرقابة الفعالة
استجابت الحكومة اليمنية بنموذج متطور للرقابة الاقتصادية، حيث وجه رئيس الوزراء سالم بن بريك بتشكيل فرق ميدانية في جميع المحافظات المحررة، مؤكداً أن "استقرار سعر الصرف لا يعني شيئاً إذا لم ينعكس على أسعار السوق". هذا التوجه يعكس فهماً عميقاً لطبيعة التحديات الاقتصادية وضرورة الربط المباشر بين السياسات النقدية وتأثيرها على المستوى المعيشي للمواطنين.
في محافظة مأرب، برزت تجربة فريدة في الرقابة المجتمعية، حيث بادر نشطاء ومدونون لتحويل تطبيق واتساب إلى أداة رقابة فعالة على الأسعار. هذه المبادرة، التي ضمت أكثر من 970 عضواً في مجموعة واحدة فقط، تعكس مستوى التفاعل الشعبي مع الجهود الحكومية وتطور أساليب الرقابة المجتمعية في العصر الرقمي.
النجاح الأكبر تحقق في محافظات مأرب وتعز والحديدة، حيث شهدت الحملات الرقابية نتائج ملموسة. في مأرب، قادت السلطة المحلية بقيادة وكيل المحافظة ناصر مبروك حملات شملت أسواق الجملة والتجزئة، مع ضبط مخالفات وإلزام التجار بإظهار القوائم السعرية بوضوح. أما في تعز، فقد تمكن مكتب الصناعة من ضبط أكثر من 150 تاجراً متهمين بالتلاعب بالأسعار، بينما في الحديدة، أشرف المحافظ شخصياً على تنفيذ حملة شاملة مع تشكيل غرفة عمليات لمتابعة السوق.
الوفورات المباشرة: ترجمة الأرقام إلى واقع معيشي
التحسن في سعر صرف الريال السعودي من 750 إلى 400 ريال يعني وفورات مباشرة تصل إلى 47% في تكاليف الاستيراد للسلع الأساسية. هذا التحسن، عند ترجمته بشكل عادل إلى أسعار السوق، يمكن أن يحقق وفورات شهرية تصل إلى آلاف الريالات لكل أسرة يمنية، خاصة في المواد الغذائية الأساسية مثل القمح والأرز والدقيق والسكر والزيوت.
في قطاع المشتقات النفطية، الذي يؤثر مباشرة على تكاليف النقل وأسعار جميع السلع، أكد مجلس الوزراء على ضرورة عكس انخفاض الأسعار على تكاليف النقل والمنتجات. هذا التوجه يعد بتأثير مضاعف إيجابي على الاقتصاد، حيث ستنخفض تكاليف الإنتاج والتوزيع، مما يخلق دورة اقتصادية إيجابية تعود بالنفع على جميع شرائح المجتمع.
الرؤية الاستراتيجية: نحو اقتصاد عادل ومستقر
تعكس هذه الحملات رؤية حكومية طويلة المدى لبناء اقتصاد يتسم بالعدالة والشفافية، حيث تضمن الآليات الرقابية انعكاس أي تحسن اقتصادي فوراً على مستوى معيشة المواطنين. هذا النهج يتجاوز مجرد ضبط الأسعار إلى إرساء ثقافة اقتصادية جديدة تقوم على المسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص والشراكة الحقيقية مع الحكومة.
التنسيق الواسع بين مختلف المستويات الإدارية، من الوزارات المركزية إلى السلطات المحلية في المحافظات والمديريات، يعكس نضجاً في آليات الحكم وقدرة على التنفيذ الفعال للسياسات. هذا التنسيق، الذي شمل أيضاً الأجهزة الأمنية، يضمن تطبيق القوانين بحزم مع الحفاظ على التوازن بين مصالح التجار والمستهلكين.
القوة التنافسية: النموذج اليمني في الرقابة الاقتصادية
ما يميز التجربة اليمنية في الرقابة على الأسواق هو الجمع بين الرقابة الحكومية التقليدية والابتكار في استخدام التكنولوجيا والمشاركة المجتمعية. استخدام منصات التواصل الاجتماعي كأداة رقابة يعكس تطوراً في مفهوم الحكم التشاركي، حيث يصبح المواطن شريكاً فعالاً في عملية الرقابة وليس مجرد مستفيد سلبي.
النهج المتدرج في التطبيق، الذي بدأ بالتوعية والإرشاد ثم انتقل إلى الإجراءات العقابية، يعكس حكمة في التعامل مع القطاع الخاص. هذا التوازن بين الحزم والمرونة يضمن تحقيق الأهداف دون إلحاق ضرر بالنشاط الاقتصادي أو خلق بيئة معادية للاستثمار.
الفرص المستقبلية: من الرقابة إلى التنمية المستدامة
نجاح هذه الحملات يفتح المجال أمام مرحلة جديدة من الاستقرار الاقتصادي والثقة في السياسات الحكومية. الشفافية في التسعير والرقابة الفعالة تخلق بيئة تجارية صحية تشجع المنافسة الحقيقية وتحفز الابتكار والكفاءة في القطاع الخاص.
هذا الاستقرار في الأسعار، مقترناً بتحسن سعر الصرف، يمكن أن يجذب استثمارات جديدة في القطاعات الإنتاجية، خاصة في الزراعة والصناعات الغذائية والنسيجية. كما أن الثقة المتزايدة في قدرة الحكومة على إدارة الاقتصاد بفعالية تعزز من مكانة اليمن في نظر المجتمع الدولي والمانحين.
التجربة الناجحة في الرقابة على الأسعار تؤسس لتطبيق آليات مماثلة في قطاعات أخرى، مثل الخدمات المصرفية والاتصالات والطاقة، مما يخلق نموذجاً شاملاً للحكم الرشيد يمكن تصديره إلى مناطق أخرى في البلاد تحت سيطرة الحكومة الشرعية.