تشهد القضية الفلسطينية تحولات دبلوماسية مهمة مع الإعلان عن موجة من الاعترافات الدولية المحتملة بالدولة الفلسطينية المقررة في سبتمبر المقبل، لكن هذا التأخير في الاعتراف لا يبدو صدفة، بل يمثل تكتيكاً متعمداً يمنح إسرائيل المزيد من الوقت لتغيير الواقع على الأرض وتقويض أي إمكانية حقيقية لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة.
تأتي هذه التطورات في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة منذ أكثر من 668 يوماً، والذي أسفر عن سقوط أكثر من 60 ألف شهيد و50 ألف مصاب وفقاً لوزارة الصحة الفلسطينية. وخلال هذه الفترة، اعتمدت إسرائيل استراتيجية "التهجير الناعم" في القطاع وفقاً لتقرير منظمة العفو الدولية، بينما زادت وتيرة الاستيطان في الضفة الغربية بنسبة 38% مقارنة بعام 2022 حسب مركز بتسيلم الإسرائيلي.
يعكس تأخير الاعتراف الدولي بفلسطين معضلة قانونية معقدة مصممة لحماية إسرائيل من المساءلة الدولية. فبدون الاعتراف الكامل بفلسطين كدولة، تبقى قدرتها على تصعيد قضايا محكمة العدل الدولية محدودة، رغم أن المحكمة أمرت إسرائيل بوقف أعمال القتل قبل تسعة أشهر دون أن تلتزم بذلك.
وقد دعت 15 دولة غربية في مطلع أغسطس 2025، بينها فرنسا وكندا وأستراليا، بلدان العالم إلى إعلان عزمها الاعتراف بدولة فلسطينية. لكن هذه المبادرات جاءت مشروطة ومتأخرة، حيث ربطت ألمانيا اعترافها بالقضاء على حركة حماس، بينما ربطت بريطانيا ذلك بتوقف إسرائيل عن ارتكاب المزيد من الجرائم.
يشير وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش إلى الهدف الحقيقي من تسارع الأعمال العسكرية الإسرائيلية عندما قال: "لن نبقي لكم شيئاً تعترفون فيه على الأرض". هذا التصريح يكشف استراتيجية إسرائيلية واضحة لاستغلال الوقت المتاح قبل الاعترافات المحتملة لتدمير أي أساس جغرافي أو ديموغرافي لقيام دولة فلسطينية.
تعارض الولايات المتحدة هذه الجهود علناً، حيث هدد الرئيس ترامب كندا بصعوبات في الاتفاق التجاري إذا اعترفت بفلسطين، بينما فرضت واشنطن عقوبات على مسؤولين في السلطة الفلسطينية بحجة انتهاكهم التزاماتهم عبر دعم إجراءات في المنظمات الدولية. هذا الموقف الأمريكي يكشف النفاق في الخطاب الغربي حول حل الدولتين.
يقدم التأخير المتعمد في الاعتراف رسالة مزدوجة: ظاهرياً يبدو كورقة ضغط على إسرائيل، لكنه عملياً يمنحها جدولاً زمنياً لإتمام مشاريع التطهير العرقي والاستيطان. فكل تأخير وكل شرط مسبق يعني يوماً إضافياً لاستمرار الجرائم دون عوائق حقيقية.
تمكنت إسرائيل من تغيير الخارطة الديموغرافية والجغرافية في غزة والضفة بشكل جذري خلال العام الماضي، وهو ما يطرح تساؤلاً جوهرياً: على أي أرض ستقوم الدولة الفلسطينية المنشودة؟ فالمشروع المطروح في المحافل الدولية لا يزال يتحدث عن حدود 1967 بينما يجري تفكيك هذه الحدود على الأرض.
يكشف تحليل المواقف الدولية الحالية أن معظم الدول الغربية تشترط على الفلسطينيين التوقف عن مقاومة الاحتلال كشرط للاعتراف بدولتهم، بينما لا تفرض التزامات مماثلة على إسرائيل لوقف جرائمها أو تفكيك مستوطناتها. هذا التناقض يعكس ازدواجية معايير تنسف أسس أي حل عادل.
يشار إلى أن عدد الدول كاملة العضوية في الأمم المتحدة يبلغ حالياً 193 دولة، وتحدد اتفاقية مونتيفيديو لعام 1933 أربعة معايير لقيام الدولة: حدود إقليمية محددة، وسكان دائمون، وحكومة تمثل هؤلاء السكان، والقدرة على إبرام اتفاقيات دولية. لكن الواقع الفلسطيني يتعرض لتدمير منهجي في كل هذه المعايير.
يبدو أن التأخير في الاعتراف بفلسطين يخدم أجندة إسرائيلية واضحة لإنهاء أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية، بينما يحافظ المجتمع الدولي على مظهر البحث عن حلول دبلوماسية. هذا التكتيك المتعمد يضمن استمرار الوضع الراهن الذي يخدم المشروع الاستيطاني الإسرائيلي، ويحرم الشعب الفلسطيني من حقوقه الأساسية في تقرير المصير والعيش بكرامة على أرضه.
في النهاية، يطرح الواقع الحالي تساؤلاً مؤلماً: هل ما زال حل الدولتين ممكناً بعد كل هذا التدمير المنهجي، أم أن المجتمع الدولي يشارك في مسرحية دبلوماسية تهدف لشراء الوقت بينما تكتمل عملية تصفية القضية الفلسطينية على الأرض؟