شغل النموذج الصيني المحللين في نجاحاته خلال فترة تعد قصيرة في عمر الأمم، وكيف حقق "تحولا" من مجتمع زراعي قريب من البدائية إلى نموذج ملهم لثاني أكبر اقتصاد عالمي، في الوقت الذي مر بثلاث محاولات جادة لقيام ثورة صناعية لم يكتب لها النجاح .
وكيف لأمة بتعدادها الضخم "1.4 مليار نسمة" تتحول من مجتمع فقير إلى قوة صناعية وهو ما لم تحققه دول أقل حجما وتتمتع بظروف أكثر توافقا وملاءمة؟ فيما حاول تقرير للبنك الفيدرالي في "سانت لويس" الإجابة عن ذلك.
وجهات نظر
-يرى فريق أن نمو الصين غير المستدام لا يمثل سوى فقاعة، عزز تكوينها حكومة حاسمة، لكن غياب حرية التعبير، وحماية الملكية الفكرية يؤهلها للانفجار.
-لا وجود للابتكار الذي يؤسس لاقتصاد القيمة المضافة، بينما تتزايد عمليات "النسخ"، وسرقة التكنولوجيا الغربية وتقليدها، وهذا يعني أن "الفقاعة" ستنفجر وسيدفع ضريبتها الشعب الصيني وحده.
-فريق آخر يرى الحضارة الصينية ضاربة بجذورها تاريخيا وسوف تستعيد مكانتها، وما هي إلا مسألة وقت وستتبوأ مكانتها اللائقة وتستعيد مجدها التالد.
-لكنّ أيا من الفريقين لا يدعمه تحليل اقتصادي متعمق، فالأول يعتمد على التحيز للنموذج الغربي، والآخر يستشهد بالتاريخ بسذاجة زاعما أنه سيكرر نفسه حتما بغض النظر عن أى شيء آخر.
هل هي النهاية أم تعديل للمسار؟
-يتخيل البعض أن تباطؤ نمو الصين دون 7% بالمقارنة مع 9.85% كمتوسط نمو سنوي في الفترة (1989-2016) هو بداية النهاية لمعجزة التنين الصيني.
الفترة |
أعلى نمو |
الربع الأعلى |
أقل نمو |
الربع الأقل |
متوسط النمو خلال الفترة |
النمو في الربع الأول 2016 |
2016-1989 |
15.40 % |
الأول 1993 |
3.80 % |
الرابع 1990 |
9.85 % |
6.7 % |
- بمتابعة تاريخ أمريكا، يلاحظ معايشتها 15 أزمة مالية عاصفة بجانب حرب أهلية استمرت 4 سنوات في الوقت الذي بدأت تبرز فيه على الساحة الدولية كقوة عظمى.
- الولايات المتحدة كانت على وشك الانهيار عام 1907 فيما كانت "تتسلم" قيادة العالم من بريطانيا "العظمى"، فيما نجحت في الإفلات من الكساد العظيم بداية الثلاثينات، وكذلك الأزمة المالية في2007.
- هل هذه الأزمات على مدار عقود طويلة برهنت على خفوت نجمها اقتصاديا وخروجها من التاريخ كقائد؟ بالطبع لا فما زالت باقية ومؤثرة.
حقائق عن التجربة الصينية
-شهد نصيب الفرد من الناتج الإجمالي المحلي ارتفاعا ملحوظا خلال أكثر من نصف قرن عاكسا التطور الذي شهدته التجربة الصينية.
الفترة |
أعلى نصيب للفرد من GDP |
السنة الأعلى |
أقل نصيب للفرد من GDP |
السنة الأقل |
متوسط نصيب الفرد خلال الفترة |
نصيب للفرد من GDP عام 2010 |
2014- 1960 |
$3865.8 |
2014 |
83.33 $ |
1962 |
873.24$ |
2891.08$ |
- تعد الصين قوة مؤثرة بإنتاجها حوالي 50% من سلع العالم الصناعية الهامة، بما في ذلك الصلب "حوالي 50 % من المعروض عالميا"، الإسمنت "ما يناهز 60% من إنتاج العالم، الفحم "50% من إنتاج العالم".
- أيضا هي أكبر مصنّع عالمي للسفن، القطارات فائقة السرعة، الروبوتات، الكمبيوترات، الجوالات، بجانب أنها الأولى كذلك في إنشاء الجسور، والأنفاق، وتعبيد الطرق السريعة وغيرها الكثير.
- ولتقريب الصورة يشير الرسم البياني التالي إلى تحرك ناتج الصناعات التحويلة في أكبر5 دول خلال الفترة بين 1970-2013، وكيف تفوقت الصين على ألمانيا واليابان وكذلك أمريكا.
-الطريف أن الرئيس الأمريكي "نيكسون" عندما زار الصين في بداية السبعينيات لم تكن الدولة تملك سوى صناعات بدائية، فيما بدأ الاستعداد للإقلاع خلال فترة الثمانينيات ليشهد العقد التالي خلال التسعينيات انطلاقة قوية تدفع الصين لتجاوز الولايات المتحدة كأكبر قوة صناعية في العالم عام 2010.
ثلاث محاولات لم تكلل بالنجاح
- التطور الذي أحدثته الصين خلال ثلاثة عقود تقريبا جدير بالتأمل، فماذا فعلت كي تحقق ما حققته؟ هذا الرصد التاريخي يوضح مراحل التمهيد السابقة للثورة الصناعية الناجحة في النهاية.
الفكرة |
التوضيح |
إعادة الاكتشاف |
- فك اللغز يكمن في إعادة اكتشاف "الخلطة السرية" للثورة الصناعية التي بدأتها بريطانيا مبكرا قبل كثيرين وقادت بها العالم.
- هذه الثورة لها أهمية كبيرة في تاريخ البشرية الحديث، تماما مثل اكتشاف النار قديما والتي أهلتها لمرحلة تطور لاحقة.
- استطاعت تلك الثورة اعتبارا من عام 1760 رفع مستوى معيشة الشعب في بريطانيا، وهو ما أسهم في رفع نصيب الفرد من الناتج الإجمالي المحلي.
|
محاولات التقليد |
- نتيجة للنجاح الذي حققته بريطانيا بثورتها، سارعت الدول في محاكاة النموذج الثوري الاقتصادي.
- لم تنجح كل المحاولات التي جاهدت لنقل هذا النموذج لدولها.
- اقتصر تطور هذا النجاح على بعض الدول مثل الولايات المتحدة، اليابان، بالإضافة إلى التأثير في الدول المجاورة في شمال وغرب أوروبا.
|
فشل ونجاح النموذج |
- التساؤل: لماذا نجحت دول وفشلت أخرى كثيرة في تتبع النموذج؟ الإجابة تشير في النهاية إلى السياسة التي "تتفنن" في وسائلها لتحقيق المصالح، وتحديدا النظرية المؤسسية وإعلاء دور المؤسسات.
- فالدول التي أفسحت مؤسساتها الشاملة الطريق أمام السوق الحرة، وتفعيل سيادة القانون، واحترام حقوق الملكية الخاصة عاشت ازدهارا ملموسا.
- وعلى العكس فالفكر المتسلط من قبل المؤسسات القائمة على الدكتاتورية يمهد لبيئة غير محفزة للعمل والابتكار وتكون المحصلة النهائية التي يحصدها الشعب هي الفقر.
|
اختلاف النظرية والواقع |
- بعض النظريات قد لا يفسرها الواقع دائما، فهناك تجارب ديمقراطية في تونس، تايلاند، وأوكرانيا يقابلها اضطراب سياسي وركود اقتصادي.
- وفي المقابل تجارب لمؤسسات قائمة على الفكر الشمولي أو الدكتاتوري حققت تقدما اقتصاديا مثل ألمانيا في الفترة من منتصف القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى.
- وتعد روسيا مثالا بارزا لذلك أيضا في نفس الفترة تقريبا التي عاشتها ألمانيا.
- وللأسف لا تستطيع النظرية المؤسسية تفسير "الإقلاع الكوري الجنوبي" نحو التطور في ستينيات إلى ثمانينيات القرن الماضي في ظل الدكتاتورية.
|
إرهاصات أولى وثانية لثورة صناعية |
- بعد هزيمتها في حرب الأفيون الثانية من قبل بريطانيا، حاولت الصين تأسيس نهضة صناعية في الفترة بين 1861-1911.
- هذه الخطوة التي جاءت قبل ثماني سنوات في فترة هامة من تاريخ تطور نموذج اليابان الصناعي باءت بالفشل بعد خمسين عاما تقريبا من المحاولة مع حكومة غارقة في الديون.
- مع الرغبة في عمل إصلاحات سياسية دفع ذلك الوضع الأحداث نحو ثورة شينغهاي في 1911 التي قضت على النظام الملكي.
- وبقدوم أول حكومة بعد تفعيل النظام الجمهوري، حاولت عمل ثورة صناعية بدعم محاكاة نموذج المؤسسات الأمريكي وتفعيل مبدأ فصل السلطات وتطبيق الديمقراطية.
- كان الشعار السائد وقتها: بالعلم والديمقراطية فقط يمكن إنقاذ الصين.
- ومع افتقار البلاد للديمقراطية الحقيقية والتعددية كما تطلب النظرية المؤسسية أو المؤسساتية الحديثة كما اقتنعت النخبة التي أسقطت النظام الملكي، فشلت محاولة صنع ثورة صناعية، ومرت 40 سنة والصين واحدة من أفقر دول العالم.
|
الشيوعية والمحاولة الثالثة |
- بعد نجاح جيش التحرير الشعبي في تحقيق الانتصار على نموذج الحكومة الحديثة من خلال الحرب الأهلية عام 1949، بدأت محاولة ثالثة لتوطين الثورة الصناعية في الصين.
- الاختلاف هنا تمثل في محاكات نموذج التخطيط المركزي للاتحاد السوفيتي. - لكن مرت ثلاثون عاما، وفشلت محاكاة النموذج في بناء النهضة الصناعية أيضا.
|
ما الذي تغير لتحقيق النجاح بعد ثلاث محاولات فاشلة؟
-بدأت المحاولة الرابعة مع القائد "دنغ شياو بينغ" عام 1978 برفض نصائح ومشورة الاقتصاديين الغربيين، وذلك على عكس ما فعلت روسيا في التسعينيات لاحقا.
-اتبع نهجا تجريبيا بسيطا مع إصلاحات اقتصادية، ودعّم ذلك عناصر واضحة أهمها الاستقرار السياسي، مع تفعيل إصلاحات من أسفل إلى أعلى بدأت من القطاع الزراعي وليس المالي.
-حفّز "بينغ" الصناعات الريفية رغم بدائيتها، واستخدام السلع المصنعة بدلا من سلع الموارد الطبيعية في مبادلتها كصادرات للحصول على الآلات من الغرب.
-قدم دعما حكوميا هائلا لمشروعات البنية التحتية، مع "تسلق" سلم التطور الصناعي بدءا بالمكونات الخفيفة وصولا إلى الصناعات الثقيلة.
-والأهم هنا توظيف نموذج المسار المزدوج، فبدلا من الخصخصة بالجملة زاوج بين نظام التملك الخاص في الفكر الرأسمالي مع بقاء الحكومة كشريك رئيسي.
-ورغم محاكاة الثورة الصناعية الصينية لنظيرتها البريطانية، فهناك اختلاف كبير في فكر المؤسسات السياسية، مع اعتراف ببقاء نوع من "الاستبداد" في الصين.
تحديات باقية ومثالب رأسمالية
-مع الجدل القائم حول فضل اقتصاد السوق في تحقيق الإنجاز الصيني وعدم حسمه، يبقى الفكر الدارويني-نسبة إلى تشارلز داروين- قائما في "التدمير الخلاق" لاجتثاث الضعف.
-وتظل الجريمة المنظمة، وقبلها الفساد، والتلوث غير المسبوق بيئيا، وارتفاع حالات الطلاق، والانتحار، والغش التجاري، والبضائع المقلدة ومنخفضة الجودة أهم المثالب.
-يضاف إلى ذلك أخطر آفات الرأسمالية، وهي عدم المساواة في المداخيل، والتمييز، والطبقية.
- ومن التحديات: ضرورة بناء "شبكة أمان اجتماعي"، وإنهاء الإصلاحات الاجتماعية، الصحية، والتعليمية، وإتمام تطوير المناطق الريفية.
- ومحاكاة للنموذج البريطاني والأمريكي، فإن إنشاء "بنية تحتية مالية حديثة" بجانب مؤسسات تنظيمية عالية الكفاءة، يمثل تحديا هاما، مع عمل نظام قانوني حديث كما في سنغافورة وهونج كونج.
- وتبقى الإشارة إلى أن النموذج الصيني لم يفقد بريقه بعد، إنما هو في حالة تعديل مسار، فهل يحقق نبوءة البعض باحتمالية أن تكون قيادة القرن الحادي العشرين صينية؟