بيت حانون- علا عطا الله- إسلام أون لاين.نت
شوارع حزينة وسماء فقدت زرقتها... أحلام في مهدها ماتت.. مصاصات حليب اغتيلت وبيوت على ساكنيها هدمت... سيل من قطرات الدم يستوقفك معلنًا عن رائحة موت مرت من هنا.
لا الطريق هي الطريق ولا الأشياء هي الأشياء... فراش العمر تطاير وألعاب الطفولة قضت نحبها.. ومستشفيات غصت بالجرحى والشهداء ولم يَعُد هناك متسع لديها لاستقبال المزيد من الدماء...
ما سبق وصفه هو أقل القليل لتفاصيل المجزرة البشعة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في مدينة بيت حانون، شمال شرق قطاع غزة، وأسفرت عن مقتل 20 شهيدًا معظمهم من النساء والأطفال، بحسب أحدث حصيلة.
أين ذهبوا؟
عندما تدور في أروقة منزل عائلة العثامنة المكون من 3 طوابق وهي العائلة التي فقدت على الأقل 17 فردًا من أبنائها، تشعر وكأنك تمشي فوق رصيف الذاكرة... فبقايا الدمى والملابس والكتب والدفاتر والتفاصيل الصغيرة تخبرك بأنه كان في هذا المكان بقعة تنبض بالحياة وبصوت الطفولة والبراءة، وأنها نامت نومتها الأخيرة بفضل قذائف انطلقت بكامل حقدها صوب أحلامهم...
وبينما كنت أتفقد آثار المجزرة والدمار إذا بصوت نحيب وبكاء يعلو ويرتفع وصرخات تتوالى: "أين ذهبوا؟!... أين ذهبوا؟!.. محمود يا حبيبي... سعد أين أنت؟.. آه... آه"، وكمن فقد عقله أخذ أمجد العثامنة الذي فقد ولديه محمود (10 أعوام)، وسعد (9 أعوام) يبحث عن بقايا حياة كانت هنا.
وكان أمجد قد خرج لتوّه من المستشفى الذي ترقد فيه زوجته وما تبقى من أبنائه ومعظمهم يعاني من إصاباتٍ خطيرة.
أمجد الذي رأى بيته المحروق والمدمر لأول مرة بدا مذهولاً وأخذ يحدثنا بعصبية بالغة: "كنا نائمين... خرجت أنا وزوجتي وأولادي فلاحقتنا القذائف.. استشهد ابني محمود وابني سعد.. وثلاثة من إخوتي".
ناموا آمنين
قطع كلامه معنا وعيونه التائهة تدور في المكان تارة يقع بصره على غرف المنزل التي تحولت إلى كومة ركام، وتارة ينظر إلى أرضيةٍ مملوءة بالشظايا وببقايا حياة كانت تنطق في هذا المنزل.
وفجأة هرول نحو حقيبة مدرسية وحملها في أحضانه وأخذ يبكي: "إنها لمحمود" عبراته التي انهمرت كما المطر صاحبته إلى الشارع وهو يواصل الصراخ: "انظروا... إنها حقيبة محمود... أين أنت يا محمود.. تعالَ خذ مصروفك".
ليس أمجد وحده المصاب بحالة الذهول أو حتى الهذيان فجميع أفراد عائلة العثامنة بدوا وكأنهم قد دخلوا في نوباتٍ من عدم التصديق؛ فأمام حفرة كبيرة أحدثتها إحدى القذائف في جدار المنزل جلس عمر العثامنة يبكي أشقاءه الأربعة وهو يصرخ: "ما ذنب الأطفال الأبرياء؟... وما ذنب النساء؟.. الجميع كانوا نيامًا آمنين في بيوتهم...".
14 قذيفة موت
ويؤكد عمر أنهم فور سماعهم قذائف الدبابات هربوا من البيت إلى الشارع، ولكن القذائف كانت بانتظارهم مجددًا.
وأضاف بألم: "بالأمس كانوا هنا وفتشوا المنزل وهم يدركون تمامًا أن جميع سكانه من الأطفال والنساء... وحججهم واهية، حيث لم يتم ضرب أي صواريخ باتجاههم وكانت الليلة على غير العادة هادئة جدًّا".
واستدرك عمر بصوتٍ حزين: "أفظع ما في الأمر أنهم كانوا يلاحقوننا بقذائف موتهم وكأنهم كانوا يشاهدوننا ويتلذذون بصراخنا وبأشلائنا وهي تتطاير وتتمزق".
أكثر من 14 قذيفة دبابة انهالت على منزلين للعثامنة ولعائلة حمد والكفارنة بحسب شهود عيان والذين أكدوا سقوط أكثر من صاروخ أرض أرض على تلك المنطقة وقال أبو رامي وهو جار عائلة العثمانة والذي تضرر بيته بفعل القذائف: "في ساعات الصباح الباكر انهالت القذائف من كل حدب وصوب قذيفة... تتبعها أخرى نظرت من الشباك فإذا بمنظر الدخان الأسود يغطي المكان وصوت صراخ وعويل لا يتوقف...".
لحظات من الرعب
كنا نذهب إلى اليمين فتضربنا قذيفة... نهرب إلى الشمال فتأتي أخرى.. نصعد إلى بيتٍ من البيوت المجاورة بهدف الاحتماء فتسقط على رؤوسنا قذيفة جديدة، كانت تلك شهادة الطبيب علي العثامنة أحد أقارب تلك العائلة المنكوبة والذي أضاف: "كنت أظن أن طائرة استطلاع هي من تقصفنا لم أصدق ما حدث.. ذهبت لإسعاف الجرحى وانتشال الشهداء، ولكن قوات الاحتلال لم ترحمنا".
وتابع والدموع تسبق كلماته: "لم ترحم طفلاً ولا عجوزًا ولا سيدة حاملاً.. شعرت أنني أعيش لحظات من أفلام الرعب والخيال... بيتي الذي يبعد أمتارًا عن المنازل المستهدفة لم يَعُد صالحًا للسكن ولا للمبيت.. عيادتي تحطمت.. كل قواميس اللغة لا تكفي لوصف ما جرى".
حاكموهم؟؟
عادل طفل في السابعة من عمره أخذ يبكي أولاد عمه مرام وميسا العثامنة، وما إن مسح دموعه حتى حدثنا بحرقة: "انظري تلك البقعة من الدم هي لميسا وتلك الدمية كانت لمرام... كنت ألعب معهم ولكنهم ذهبوا ولن يعودوا...".
أبو حامد عدوان شقيق صقر عدوان الذي قضى نحبه هو وابنته البالغة من العمر 15 سنة حدثنا باستنكار واضح: "أمريكا حكمت على صدام بالإعدام شنقًا لارتكابه جرائم حرب... فلماذا لا تحكم على الضابط الذي أطلق القذائف بالإعدام.. لماذا لا يحاكمون أولمرت وحكومته... انظروا إلى بيت حانون... باتت مدينة الأشباح والأموات... ها هي جرائم الحرب؛ 7 أطفال استشهدوا في هذا القصف و5 نساء...".
وبعبراتٍ ممزوجة بالألم تساءل أبو حامد: "أين العرب منا؟؟ أين الأحرار في هذا العالم.. ألم يحركهم مشهد أشلاء الأطفال؟؟ ألم تحركهم صرخات الفتيات والنساء؟...".
وتوقف أبو حامد عن الكلام تاركًا العنان لدموعه الساخنة لتكمل رسالته وحديثه للعالم الصامت.
في المستشفى
وبدت مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة الذي استقبل عددًا كبيرًا من الجرحى جراء القصف الإسرائيلي، مكتظة بمئات المواطنين الذين هرعوا لتفقد أقاربهم، حيث انتشروا في أزقة وممرات المستشفى التي بدت مزدحمة بجثث الشهداء والجرحى من النساء والأطفال والشيوخ.
حدثنا المسعف زيد الكفارنة والذي كان من أوائل الذين وصلوا لمكان المجزرة قائلاً: "فور سماعنا بالقصف الإسرائيلي ذهبنا إلى المكان لنجد أشلاء الشهداء متناثرة في شارع المنطقة وجثثا متقطعة في كل مكان وصوت أنين وصراخ يخرج من بيوت المنطقة".
ويضيف دخلنا بيت العثامنة عبر ثغرة فتحتها قذيفة إسرائيلية في جدار لنجد جثثا متقطعة في كل مكان وجرحى"، وتابع: "أصبحنا نبحث عن أحد يمكن أن يكون على قيد الحياة يمكن إنقاذه.. نترك الشهداء ونبحث عن أي جريح حتى ننقذه".
وفي المستشفى حدثتنا أم أحمد العثامنة إحدى أقرباء الشهداء: "بينما نحن نائمون في المنزل وإذا بقذائف الدبابات تسقط علينا واحدة تلو الأخرى بدون أي سبب.. لقد قتل الأولاد تقطعوا إلى أشلاء.. لم يبقَ أحد".
وأخذت تشير إلى طفل جريح كانت تجلس بجانبه: "إنه الآن يرقد غائبًا عن الوعي، ولا يدري أن أمه قد أصيبت وهي ترقد في المستشفى، أما أبوه فقد قطعت أرجله، فيما قتل 3 من إخوانه يمكثون في ثلاجات المستشفى.. حسبنا الله ونعم الوكيل".