كشف البنك المركزي اليمني في عدن عن أزمة مالية حادة تفاقمت بصورة دراماتيكية خلال شهر واحد، حيث فقدت الاحتياطيات النقدية الخارجية 754 مليار ريال، مما يعادل انهياراً بنسبة 72.5% من إجمالي الاحتياطيات. هذا التراجع الصادم دفع الاحتياطيات من مستوى 1.04 تريليون ريال إلى مجرد 286 مليار ريال فقط، في تطور اقتصادي نادر يثير تساؤلات حول استدامة النظام المالي اليمني.
وفي مقابل هذا الانهيار المالي الحاد، شهدت العملة اليمنية تحسناً مفاجئاً وغير متوقع في قيمتها مقابل العملات الأجنبية خلال الأيام الماضية. سجلت أسعار الصرف في المحافظات الجنوبية والشرقية استقراراً نسبياً، حيث ثبت سعر الريال السعودي في مدينتي مأرب وعدن عند 425 ريالاً للشراء و428 ريالاً للبيع، بينما حافظ الدولار الأمريكي على مستوى 1615 ريالاً للشراء و1626 ريالاً للبيع.

أعلن البنك المركزي اليمني أن الدين العام قفز إلى مستويات فلكية تبلغ 7.61 تريليون ريال، مصحوباً بتراجع احتياطيات البنوك بنسبة 67%. هذه الأرقام تكشف عمق الأزمة المالية التي تهدد بانهيار كامل للنظام المصرفي، خاصة مع استمرار الاختلالات الهيكلية وتآكل الثقة في العملة المحلية. يحذر البنك المركزي من هشاشة الوضع النقدي وتداعياته على الحياة الاقتصادية، حيث يواجه الموظفون عجزاً في صرف رواتبهم والمواطنون فقداناً تدريجياً لمدخراتهم.
رغم هذا التدهور الحاد في الاحتياطيات، يمثل التحسن المفاجئ في قيمة الريال شعاع أمل وسط العاصفة الاقتصادية. تأتي هذه التطورات الإيجابية متزامنة مع جهود أكاديمية وخبرات اقتصادية لإيجاد حلول عملية للأزمة، حيث نظمت مؤسسة الرابطة الاقتصادية ورشة عمل متخصصة في العاصمة المؤقتة عدن بعنوان "آليات التسعير في الأسواق اليمنية والمعوقات الاقتصادية في ظل الإصلاحات النقدية".
شارك في هذه الورشة المهمة خبراء من وزارة الصناعة والتجارة، والغرفة التجارية والصناعية، إضافة إلى ممثلين عن القطاع الخاص والجامعات. ترأس الورشة الدكتور حسين الملعسي رئيس مؤسسة الرابطة الاقتصادية، الذي أكد أن ضبط الأسعار وتحقيق التوازن الاقتصادي والاجتماعي يمثل قضية وطنية بامتياز، كونها تمس حياة كل مواطن يمني في ظل التقلبات الحادة في الأسعار نتيجة التغيرات النقدية والإصلاحات الجارية.
قدم المشاركون في الورشة أوراق عمل متخصصة، حيث استعرض الدكتور عاطف حسين حيدرة، وكيل قطاع التجارة الداخلية بوزارة الصناعة والتجارة، "الأثر القانوني والإجرائي على تحسين صرف الريال اليمني وانعكاساته على التسعير في السوق اليمني". أكد حيدرة أن استقرار العملة الوطنية يمثل ركيزة أساسية للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، مشدداً على ضرورة اتخاذ إجراءات شاملة لحماية القوة الشرائية للمواطنين.

من جهته، استعرض الدكتور سامي محمد قاسم، رئيس قسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد في جامعة عدن، العوامل المؤثرة في آليات التسعير، مشيراً إلى غياب آليات واضحة للتسعير في اليمن. أكد قاسم أن التقلب في أسعار الصرف يجعل من الأسواق المحلية بيئة طاردة للاستثمار، مما يؤثر سلباً على المجتمع والاقتصاد ويفاقم من تحديات الانتعاش الاقتصادي.
بدوره، ركز الدكتور نمران الدبعي، أستاذ الإحصاء بكلية العلوم الإدارية في جامعة عدن، على الدروس المستفادة من التجارب الدولية والإقليمية لتجاوز الأزمات الاقتصادية. اقترح الدبعي تبني حزمة إصلاحات شاملة ومتكاملة، وإدارة سعر الصرف بمرونة، إضافة إلى تعزيز استقلالية البنك المركزي وإعادة بناء الثقة بالعملة المحلية كخطوات أساسية للخروج من الأزمة الراهنة.
قدمت الدكتورة نهال عكبور، أستاذ مساعد في قسم اقتصاد الأعمال، دراسة مفصلة حول تطورات أسعار القمح في عدن والعوامل المؤثرة عليها خلال الفترة من 2018 إلى 2024. سلطت عكبور الضوء على التحديات التي تواجه التجار نتيجة انقسام النظام المالي والمصرفي، مما يفاقم من صعوبات التسعير ويؤثر على استقرار أسواق السلع الأساسية.
خرجت الورشة بخمس عشرة توصية عملية لضبط الأسعار وتعزيز الاستقرار الاقتصادي، تمثل باكورة أمل في مواجهة التحديات الراهنة. جاءت التوصية الأولى لتشيد بالإصلاحات النقدية المنفذة وتدعو لتنفيذ إصلاحات اقتصادية ومالية مساندة لمزيد من الاستقرار، بينما أكدت الثانية على أهمية دعم لجنة تنظيم وتمويل الاستيراد لتأمين السوق بالسلع عبر انتظام سلاسل الإمداد.
دعت التوصية الثالثة إلى تكاتف الجهود للحد من فوضى الأسعار خاصة السلع الغذائية بالتنسيق مع السلطات المحلية، أما الرابعة فطالبت بإصدار قرارات تلزم المتعاملين بالسلع بنشر الأسعار علناً عبر منصة مخصصة وتقبل شكاوى المستهلكين. أكدت الخامسة على الوقف الفوري لفرض الإتاوات غير المشروعة على التجار، بينما دعت السادسة لوضع آليات تسعير عادلة تراعي كافة التكاليف.
اقترحت التوصية السابعة إنشاء هيئة وطنية مستقلة لحماية المستهلك، بينما ركزت الثامنة على ضرورة إيجاد خطط واضحة للحفاظ على استقرار أسعار الصرف ومنع المضاربات في العملة. أكدت التاسعة على أهمية دعم الصناعات الوطنية والإنتاج الزراعي والسمكي لتوفير البديل المحلي للمنتجات المستوردة، مما يخفف الضغط على العملة الصعبة.
دعت التوصية العاشرة لتوسيع نطاق الإصلاحات النقدية لتشمل تحسين بيئة الأعمال وتبسيط إجراءات الاستثمار، أما الحادية عشرة فأوصت بنشر الوعي الاقتصادي والمجتمعي عبر برامج توعية تستهدف المستهلكين والتجار. شددت الثانية عشرة على أنه لا يمكن تحقيق استقرار الأسعار من خلال أدوات نقدية منفردة، بل عبر تزامن الإصلاحات النقدية مع إصلاحات مالية واقتصادية وإنتاجية.
أكدت التوصية الثالثة عشرة على ضرورة تعزيز استقلالية البنك المركزي وتفعيل أدوات الرقابة المصرفية الموحدة، بينما طالبت الرابعة عشرة بتوسيع شبكة الحماية الاجتماعية من خلال التحويلات النقدية المباشرة بدلاً من الدعم العيني. اختتمت التوصيات بالدعوة لإنشاء مخزون استراتيجي للسلع الأساسية وتسهيل التجارة الداخلية وتوحيد الرسوم والجمارك.
يأتي هذا التحسن المفاجئ في قيمة الريال اليمني وسط تحديات اقتصادية معقدة تواجه البلاد، حيث تعاني من انقسام في النظام المالي والمصرفي منذ سنوات. يظهر التباين الواضح في أسعار الصرف بين المناطق المختلفة، حيث تحافظ العاصمة صنعاء على مستويات مختلفة تماماً، إذ يبلغ سعر الريال السعودي 140 ريالاً للشراء و141 ريالاً للبيع، بينما يسجل الدولار الأمريكي 537 ريالاً للشراء و540 ريالاً للبيع.
تشير التطورات الأخيرة إلى جهود متعددة الأطراف لإعادة الاستقرار للاقتصاد اليمني، رغم استمرار التحديات الجيوسياسية والأمنية التي تؤثر على الأداء الاقتصادي العام. هذا التناقض بين انهيار الاحتياطيات والتحسن في قيمة العملة يفتح المجال أمام تساؤلات حول فعالية السياسات النقدية والقدرة على تحقيق استقرار مستدام في ظل الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد.