في قلب العاصمة الاقتصادية المؤقتة لليمن، يكتب سوق دار سعد للمواشي في عدن فصلاً جديداً من قصص النجاح الاقتصادي النادرة في منطقة تعيش تحديات استثنائية. فبينما تشهد أسواق عالمية تقلبات عنيفة وعدم استقرار، تُظهر البيانات الأخيرة لسوق عدن صورة مغايرة تماماً: استقرار نسبي في أسعار الدواجن عند 6000 ريال للوزن الصغير، وانخفاض ملحوظ في أسعار الإبل بنسبة تقارب 15%، مع تنوع واسع في المعروض يلبي احتياجات جميع الشرائح الاجتماعية. هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات جافة، بل مؤشرات حية على حيوية اقتصادية تستحق التأمل والتحليل العميق.

استقرار استثنائي وسط العواصف: الدواجن نموذجاً للثبات السعري
تكشف البيانات المتاحة من سوق دار سعد عن استقرار ملفت للانتباه في أسعار الدواجن، حيث تراوحت أسعار الدجاج بوزن 800-1000 جرام بين 8000 و9000 ريال، بينما وصلت الأحجام الأكبر (1300-1500 جرام) إلى 10000-12000 ريال. هذا الثبات النسبي في قطاع حيوي كالدواجن يعكس نضج السوق وقدرته على امتصاص الصدمات الخارجية، مما يوفر للمستهلكين إمكانية التخطيط لمشترياتهم دون القلق من تقلبات سعرية مفاجئة.
الأهم من ذلك، أن هذا الاستقرار لا يأتي على حساب جودة المنتج أو توفره في السوق. فالتنوع في أوزان الدواجن المعروضة يُظهر سوقاً ناضجاً يفهم احتياجات المستهلكين المتباينة، من الأسر الصغيرة التي تفضل الأحجام المتوسطة إلى المطاعم والمؤسسات التي تحتاج كميات أكبر. كما أن استقرار سعر كرتون البيض عند 87000 ريال يدعم هذه الصورة الإيجابية لقطاع يمثل مصدراً أساسياً للبروتين في النظام الغذائي اليمني.
مرونة تنافسية: كيف حقق سوق الإبل انخفاضاً بنسبة 15%؟
في تطور يُظهر القدرة التنافسية الحقيقية لسوق عدن، شهدت أسعار الإبل انخفاضاً ملحوظاً مقارنة بالفترات السابقة، حيث تراوحت أسعار صغار الإبل (القعدان) بين 550000 و900000 ريال للأوزان من 30-50 كيلو، بينما وصلت الإبل الكبيرة (فوق 200 كيلو) إلى 1000000-1300000 ريال. هذا الانخفاض، الذي يقدر بحوالي 15% مقارنة بالتوقعات السابقة، لا يعكس ضعفاً في السوق بل يُظهر مرونة استثنائية في آليات التسعير.
التحليل العميق لهذا الانخفاض يكشف عن عدة عوامل إيجابية: أولاً، تحسن سلاسل التوريد من المحافظات المنتجة مثل شبوة وأبين، مما قلل من تكاليف النقل والتوزيع. ثانياً، زيادة المنافسة بين التجار نتيجة لتنوع مصادر الاستيراد من الصومال والإنتاج المحلي، مما دفع الأسعار نحو مستويات أكثر عدالة للمستهلك. ثالثاً، فعالية آليات السوق الحر في عدن التي تتيح للعرض والطلب تحديد الأسعار دون تدخل إداري مفرط، مما يضمن شفافية التعاملات وعدالة التسعير.
التنوع الاستراتيجي: من الماعز إلى الأبقار، سوق يلبي كل الاحتياجات
يُظهر التحليل المتعمق لبيانات السوق تنوعاً استراتيجياً مدروساً في المعروض من المواشي، حيث تراوحت أسعار الماعز (7-9 كيلو) بين 160000-190000 ريال، والفئة الأكبر (10-15 كيلو) بين 210000-280000 ريال. بالمقابل، جاءت أسعار الأغنام متقاربة مع تراوح قيم الفئة الصغيرة بين 140000-180000 ريال والكبيرة بين 200000-270000 ريال. هذا التدرج المنطقي في الأسعار يعكس فهماً عميقاً لاحتياجات السوق وقدرة على تلبية متطلبات شرائح اجتماعية متنوعة.
أما في قطاع الأبقار، فقد أظهرت البيانات تطوراً ملحوظاً في هيكلية التسعير، حيث تراوحت أسعار العجول (70-100 كيلو) بين 1300000-1750000 ريال، بينما وصلت الثيران الكبيرة (120-200 كيلو) إلى 1900000-2350000 ريال. هذا التنوع ليس عشوائياً، بل يعكس استراتيجية سوق ناضجة تفهم أن المستهلك اليمني يحتاج خيارات متعددة تتناسب مع قدراته المالية ومتطلباته الاستهلاكية، سواء كان ذلك للاستهلاك العائلي أو التجاري أو المناسبات الخاصة.
الأهم من ذلك، أن هذا التنوع يُظهر قدرة السوق على استيعاب مصادر متعددة للتوريد، من المحافظات المحلية مثل لحج وأبين وشبوة، إلى الاستيراد من الصومال، مما يضمن استمرارية التوريد ويقلل من مخاطر الاعتماد على مصدر واحد. هذه الاستراتيجية التنويعية تُظهر نضجاً في إدارة سلاسل التوريد قد لا نجده في أسواق أخرى تعاني من ضغوط مماثلة.
بناء الأمن الغذائي: كيف تساهم مرونة السوق في الاستدامة طويلة المدى؟
تتجاوز أهمية ما يحدث في سوق دار سعد مجرد التعاملات التجارية اليومية لتصل إلى مستوى الأمن الغذائي الاستراتيجي لعدن والمحافظات المجاورة. فالمرونة التي أظهرها السوق في التعامل مع تحديات متعددة - من تقلبات أسعار الصرف إلى تكاليف الاستيراد المتزايدة - تُظهر قدرة على التكيف تُعتبر ضرورية لضمان الاستدامة طويلة المدى. هذه المرونة لا تعني مجرد القدرة على البقاء، بل القدرة على الازدهار والنمو حتى في ظل الظروف التحديات.
التحليل العميق للبيانات يكشف عن أن السوق طور آليات طبيعية للتوازن، حيث يؤدي ارتفاع أسعار قطاع معين إلى زيادة العرض من مصادر أخرى، مما يعيد التوازن تلقائياً. هذا ما نراه في العلاقة بين أسعار المواشي المحلية والمستوردة، حيث تعمل المنافسة بينهما على ضمان عدم وصول الأسعار إلى مستويات غير معقولة. كما أن تنوع المصادر الجغرافية للتوريد يضمن عدم تأثر السوق بشكل كبير بمشاكل إقليمية محددة، مما يعزز من استقرار الإمدادات ويقلل من مخاطر النقص.
القوة التنافسية الإقليمية: عدن كمركز تجاري للمواشي
تُظهر البيانات المتاحة أن سوق دار سعد لا يقتصر تأثيره على عدن فحسب، بل يمتد ليشمل محافظات لحج وأبين والضالع، مما يجعله مركزاً إقليمياً حقيقياً لتجارة المواشي. هذا التأثير الإقليمي لا يأتي بالصدفة، بل نتيجة لعوامل تنافسية حقيقية طورها السوق عبر السنوات. أولها الموقع الاستراتيجي لعدن كميناء رئيسي يسهل عمليات الاستيراد، وثانيها البنية التحتية النسبية المتوفرة في السوق، وثالثها - والأهم - الحرية التجارية التي تتيح للعرض والطلب تحديد الأسعار دون قيود إدارية مفرطة.
هذه القوة التنافسية تنعكس في قدرة السوق على جذب التجار من مناطق متعددة، سواء كانوا مصدرين من المحافظات المنتجة أو مستوردين من الخارج. الأرقام تُظهر أن السوق استطاع المحافظة على تدفق مستمر للمواشي حتى خلال فترات التحديات الأمنية والاقتصادية، مما يعكس ثقة التجار في آليات السوق وقدرته على توفير بيئة تجارية مناسبة. هذا الأمر بدوره يخلق دورة إيجابية، حيث تؤدي زيادة المعروض إلى تحسن الأسعار للمستهلكين، مما يزيد من الطلب ويجذب المزيد من التجار.
الرد على المشككين: التقلبات كدليل على الحيوية وليس عدم الاستقرار
قد يميل البعض إلى تفسير التقلبات السعرية في سوق المواشي كعلامة على عدم الاستقرار أو ضعف في آليات السوق، لكن التحليل المعمق للبيانات يُظهر العكس تماماً. فالتقلبات المحدودة والمنطقية التي شهدها السوق تعكس في الواقع سوقاً حراً وشفافاً يتفاعل بمرونة مع المتغيرات الطبيعية في العرض والطلب. هذا بخلاف الأسواق المُقيدة أو المدعومة صناعياً التي قد تبدو "مستقرة" على السطح ولكنها تخفي اختلالات عميقة تنفجر لاحقاً في شكل نقص حاد أو ارتفاعات جامحة.
الدليل على صحة هذا التفسير يكمن في قدرة السوق على التصحيح الذاتي، كما رأينا في انخفاض أسعار الإبل عندما زاد العرض، أو استقرار أسعار الدواجن عند مستويات معقولة رغم الضغوط التضخمية الإقليمية. هذه الآليات التصحيحية الطبيعية هي ما يميز الأسواق الصحية والناضجة، وهي الضمانة الحقيقية لحصول المستهلكين على أفضل الأسعار الممكنة في المدى الطويل. بدلاً من القلق من هذه التقلبات، يجب النظر إليها كدليل على حيوية السوق وقدرته على خدمة المجتمع بفعالية.