لم تنتج الحروب الأهلية في تاريخها الطويل غير ظواهر اجتماعية مشوهة، بتجلياتها السياسية والثقافية والفكرية والسلوكية، وهي ظواهر تنطوي على أضرار خطيرة على مجتمعاتها، وخاصة تلك الناشئة عن الحروب المستندة على أيديولوجيات دينية أو دنيوية لتخفي الصراع الحقيقي على السلطة والثروة. هذه الظواهر الاجتماعية تتشكل في صورة جغرافيات مغلقة، تعيق بلدانها من التطور، وتضعها في حلقات مفرغة على طريق التفكك والانهيار. الحروب الأهلية ليست طريقا للتغيير ولا وسيلة للبناء؛ فهي تنتج طغاة، وفي كنف الطغيان يبقى "الوطن" مجرد جغرافيا ورعايا وسلطات مطلقة. وفي ظل هذا الطغيان أيضا ينمو التطرف والعنف والإرهاب كمعادل موضوعي لاستبداد الحكم.
لم يكن قد مر على وحدة اليمن سوى بضعة أشهر حتى نشأت الأزمة السياسية بين طرفي الوحدة. نشأت الأزمة بسبب الخلاف على بناء دولة الوحدة. لكن البعض أخذ يجر الموضوع بعيدا عن هذه الحقيقة ويخوض سجالا حول الوحدة السلمية، وكيف أنها غير قابلة للبقاء ما لم ينتصر فيها طرف بالقوة ويستلم السلطة. بدا هذا السجال في المرحلة الأولى وكأنه ترفي محض؛ لكنه ما لبث أن كشف عن ساقه التي يقوم عليها، وهي أن هناك فعلا من يشجع على السير في هذا الطريق الخطير. ولكي يتم تكريس السير في طريق الحرب، أخذ نفس التيار يساجل في موضع آخر، وهو أن الجنوبيين هربوا إلى الوحدة فلماذا نقتسم السلطة معهم؟ وما الذي يجعلنا نقبل بشروطهم بشأن بناء الدولة؟ ألا يكفي أننا قبلنا الوحدة معهم وأنقذناهم من مصير محتوم؟!!... هكذا بدأ التحضير للحرب بضرب الأسس التي قامت عليها الوحدة، وأهم هذه الأسس هي إرادة الأطراف التي اتخذت قرار الوحدة. أما وأن أحد الأطراف، وفقا لزعمهم، قد هرب إلى الوحدة، فهذا يعني أنه فاقد الإرادة في تقرير مصير شعب كان يحكمه، وبالتالي فإنها وحدة مطعون في شرعيتها. وظفوا كل شيء لتبرير الحرب؛ ومشعلو الحروب غالبا ما يكونون أشبه بحاطب ليل، يجمع في حطبته كل ما يعتقد أنه يشعل النار. أخذوا يروجون ويعدون للحرب. رفعوا يومذاك شعاراً تعبويا كريها يقول إن "الحروب تجدد المجتمعات وتوقظ الشعوب من سباتها".
-2-
قامت الحرب وأغرقت البلد في مأساتها. ولم يتجدد المجتمع، بل إن "المجددين" نهبوا البلاد وأذلوا العباد، واستنزفوا ثروات الشعب، وأحالوا مئات الآلاف من هذا الشعب إلى غرف النوم، بدلا من إيقاظه من سباته. وبعد أن كانوا نهابة يتنازعهم الخوف من تهمة النهب، صاروا بفعل الحرب والنصر نهابة جبارين لا يهابون التهمة. فالحرب منحتهم مشروعية النهب والعبث والفساد. أسفرت الحرب عن إنتاج واقع مختلف بجغرافيات سياسية وثقافية واجتماعية وسلوكية مغلقة ومشوهة. تقلصت المساحات الوطنية في المضامين السياسية والثقافية للكلمة وللفعل معا. وفي كنف هذه الجغرافيات وجد التطرف وثقافة الكراهية بيئة خصبة للنمو، وراح الإرهاب يتسلل إلى داخلها وينشئ منصات إطلاق لنشاطه. وأخذت هذه الجغرافيات المغلقة تنهش النسيج الوطني وتقطع أوصاله على نحو لم تعد معه جرعات التعبئة الخاصة بحماية هذا النسيج ممكنة. لم يكونوا في ذلك استثناء، فالحروب الأهلية لها منطقها، ولها أدواتها، ولها معادلها السلوكي والأخلاقي. أما منطقها فيقول إن المنتصر لا بد أن ينعم بانتصاره على النحو الذي يشبع عنده الشعور بالتفوق. وأما أدواتها ففوق القانون والأعراف وفوق قيم المجتمع. وأما السلوك والأخلاق فتتشكل في قلب الحدث المثخن بالجراح والقتل والتدمير، وهما قيمتان تمارسان أثناء الحروب وبعدها ارتجالا وبدون نوازع إنسانية، ووفقا لما تمليه الإرادة الرديئة للمنتصر، والتي يصبح معها فعل هذا المنتصر ملحقاً رديئا بالضرورة.
في الجنوب، الذي استهدفته الحرب، أخذت الجغرافيات المغلقة، في صورها السياسية والثقافية والاجتماعية، التي كرستها الحرب عند المنتصر والملتحقين به، تفرز نمطاً من السلوك يشجع على التعامل مع الشعب كمهزوم. استباح المنتصر حق الناس في العمل، فمارس التجويع والتفتيش في الضمائر لإنهاك "الخصم"، كما قالوا، وانتزعوا الأراضي من الفلاحين وسلموها لمن حاربوا في صفهم، وفتحوا طريقا للثأر من المشروع الوطني، وهو المشروع الذي كان في الأساس موضوع الخصومة مع أولئك الذين عبأتهم صنعاء للحرب إلى صفها، وكافأتهم بتلك الصورة التي كانت أبرز عنوان للفساد السياسي. وقام المنتصر بتدمير وتصفية المؤسسات الإنتاجية والاقتصادية، وقذف إلى الشارع الآلاف من العمال، واستباح الأرض نهبا وتوزيعا كهبات وإكراميات للفاسدين والموالين والقتلة. وما بقي من أراضي ومزارع الدولة قامت القيادات الإدارية الفاسدة في بعض المحافظات بنهبه وتوزيعه على المحاسيب، في أسوأ صور للفساد الذي مورس تحت حماية هذه الجغرافيات. وعمل بصورة ممنهجة على دعم خصوم المشروع الوطني، وهيأ بذلك الأسباب لدخول البلاد مرحلة التفكيك، التي بدأ مشوارها مع نهاية تلك الحرب. أنتجت الحرب جغرافيات مغلقة تبلورت داخلها عناصر صراعات قادمة.
-3-
وفي الشمال خاضت السلطة بعد ذلك ست حروب كاملة لم تجدد شيئا في المجتمع، بل بعثت إلى السطح روائح الطائفية والعصبية البغيضة، وأعادت إنتاجها بواسطة خطاب وفعل تعسفا الضرورات الموضوعية للاندماج الاجتماعي. لم توقظ تلك الحروب الشعب من سباته، كما أنها لم تجدده، بل أدخلته إلى دهاليز التفتيش في أسباب وعوامل التفكيك والانقسام الاجتماعي. هذه الحروب أيضا أنتجت جغرافيات مغلقة سرعان ما أشعلت بعد ذلك حروب الثارات والانتقام، والتي استخدمت نفس عناصر الحشد التي سجلتها الحروب السابقة كشواهد على رداءة كل هذه الحروب وجغرافيتها السياسية والثقافية والفكرية المغلقة، ناهيك عن ضحالة الأسباب التي ولدتها، ولكن من مواقع أخرى.
كانت الثورة الشبابية الشعبية السلمية قد عملت، إلى حد كبير، على ترميم هذا الوضع المشوه الذي أنتجته تلك الحروب، وأعادت فتح ودمج تلك الجغرافيات المغلقة على مساحة وطنية أوسع. كما أنها استعادت، من جانب آخر، القيمة الفعلية للمشروع السياسي من خلال الحوار؛ وإن بروح مثقلة بما تمخض عن الحروب والصراعات المسلحة من بروز قوى وأطراف تملك السلاح كخيار بديل للمشروع السياسي في الوقت المناسب.
اعتقدنا أننا، باستعادة المشروع السياسي السلمي الديمقراطي، قد وضعنا حاجزا قويا بين زمنين لكل منهما أدواته؛ غير أن ما أثبتته الأيام نبهنا إلى حقيقة صادمة، وهي أن الثابت في الحروب العبثية هو اعتمادها على مفاعلات الموروث الذي يتشكل على قاعدة مختلفة تماما عن الحروب الأخرى التي تقوم لأسباب سياسية، مجردة عن تزكية الموروث الديني - الأيديولوجي، والتي يمكن إزالة آثارها بمجرد ما تتم التسوية السياسية على الأرض. تقوم تلك الحروب العبثية على تنازع الحق والباطل، والخير والشر، بين أطرافها، وهو منطق مأفون بدوغما امتلاك الحقيقة، ومعها الحق في القتل وسفك الدم من أجلها، والذي أورث هذا البلد وغيره من بلاد العرب والمسلمين كل هذه الكوارث، وهو مترع بروابط ودوافع أيديولوجية متعصبة، لا تغيب فيها مصالح الآخرين العابرة للحدود، وكذا نوازع تصفية الحسابات فيما بين الدول الأخرى في بلاد الغير، حيث تتوفر شروط إنتاج الحامل الأيديولوجي أو النفعي للقيام بهذه المهمة.
والأيديولوجيات المسترخية فوق أكوام هذه المصالح المشوهة، أو تلك الكامنة والمتربصة في تجاويفها، يكون من وظائفها الأولى طمس جوهر التسامح والعيش المشترك. وعندما تبرز تجليات هذا التسامح في الدعوة إلى "الحكمة والموعظة الحسنة"، و"جادلهم بالتي هي أحسن"، و"تعالوا إلى كلمة سواء"، ومحصلتها النهائية بناء دولة المواطنة، فإن ذلك المنطق المأفون بروائح وغبار تلك الأيديولوجيات يتعرى أمام هذه الحقيقة الجوهرية للإسلام، وذلك ككاهن شرقي دهن جسمه بالفوسفور ليخدع الناس بأنه ينير لهم درب الحقيقة.
-4-
لا يمكن أن نفصل ما يجري في بلدنا اليوم عن نتائج تلك الحروب العبثية، وما ولدته من جغرافيات مغلقة مخترقة من قبل التطرف والإرهاب وغرور التسلط، وما خلقته من دوافع وأسباب وخبرات شيطانية في توظيف كل ذلك لمواصلة المراوغة في بناء دولة المواطنة، والسير في هذا الطريق الذي أنهك البلاد وخرب كل ممكنات إصلاحه.
في 2011، عملنا بكل السبل على تجنب الحرب التي أخذت تلوح في الأفق، بعد انقسام النظام انقساماً رأسياً مع بداية ثورة فبراير؛ وذلك لحماية الثورة السلمية والبلد من آثارها المدمرة. وفي اتجاه معاكس لمسار الثورة السلمية، قامت وساطة بين رأسي الجناحين المنقسمين، وكان الرئيس السابق يومها قد قدم مبادرته بشأن التخلي عن السلطة لنائب اختاره هو (وكان الأخ علي مجور)؛ كان ذلك في بداية مشوار هذه العملية الطويلة. اشتغلت الوساطة على محورين من الدوافع لاستعادة لحمة النظام. كان الأول هو التحذير من خروج الحكم من أيديهم إلى أياد أخرى. وكما زعموا أنه قد يأتي من ينتقم من الجميع، فهناك من يتربص بهم جميعاً. والثاني هو أن هناك من يريد أن ينتقم لحرب 1994، ويريد أن يشعل حربا بين الطرفين، وكنا نحن المقصودين بذلك. ولم تشفع لنا كل جهودنا التي بذلناها لتجنب الحرب والحفاظ على سلمية الثورة. وكان هناك من يريد أن يبتز موقفنا بمثل هذه الادعاءات السخيفة ليصبح صوتنا خافتا في معارضة أي اتفاق يتم بين الطرفين. وقع رأسا الطرفين، ومعهما لجنة الوساطة، اتفاقا يقضي بأن يغادرا السلطة؛ على أن الأهم من هذا كله هو الاتفاق على ترتيب الحكم في النطاق الذي يستعيد فيه نفس النظام السياسي مكانته وألا يخرج الحكم عن دائرته. كانت دول مجلس التعاون تضغط حينذاك بضرورة توقيع المبادرة. ولتخفيف ذلك الضغط، أخذ وزير الخارجية يومذاك الاتفاق الموقع إلى السعودية وبقية دول مجلس التعاون وأطلعهم عليه، وكأن الأطراف "الرئيسية" قد اتفقت على وضع حد "للمشكلة" بهذا الاتفاق. ومن يومها، تراجع الموقف من المبادرة عند هؤلاء، وأخذت نذر الحرب تلوح في الأفق من جديد، وأخذ الطرف الذي استفاد من هذا الاتفاق يعيد بناء حساباته ميدانياً في ضوء ما أصاب المبادرة من ركود. وراحت الأمور تتدهور وتتجه نحو الفوضى والمواجهات المسلحة، بعد أن صور جناحا النظام المنقسم المشهد يومئذ على أنه مجرد صراع على السلطة بينهما. وأخذت الجغرافيات المغلقة، التي كانت الثورة قد هدمت أسوارها وبدأت بتصفية محتوياتها، تستعيد نشاطها وتعيد بناء تشكيلاتها بسرعة لتقتحم المشهد بأدوات مخربة لسلمية الثورة وأهدافها الشعبية. لكن الثورة استطاعت احتواء الوضع وإفشال ذلك الاتفاق الذي بدا أنه قد تم على حسابها. تم التمسك بسلمية الثورة، وجرى، بإصرار وبصورة شاقة، العمل على فصل الثورة عن الضباب الكثيف الذي أحاط بها من جراء هذا الانقسام الذي شهده النظام، وما صاحبه من محاولات إنتاج صيغ ومعادلات عسكرية لاحتواء الثورة السلمية في الوعي الشعبي ولدى المجتمع الإقليمي والدولي على السواء. رفضنا جر البلاد إلى الحرب والصراع المسلح؛ لأننا كنا ندرك أن خيار الحرب سيؤدي في نهاية المطاف إلى انتصار أحد الجناحين، أو اتفاقهما، أو دخول البلد حربا بلا نهاية؛ وهو ما سيرتب، في كل الأحوال، نتائج واستحقاقات تكون ضحيتها الثورة السلمية وربما البلاد برمتها.
أعيدت الثورة إلى مسارها السلمي، وتم توقيع المبادرة كإطار لعملية سياسية واسعة أساسها تغيير النظام السياسي، وتتضمن حوارا وطنيا شاملاً يحقق ذلك، ومعه بناء الدولة المدنية الديمقراطية (دولة المواطنة). العملية السياسية كانت من أهم المحطات التاريخية التي قدمت فرصة لليمنيين أن يتشاركوا في بناء بلدهم، وهو ما لم يحدث في تاريخ هذا البلد منذ أزمان طويلة. هاجم البعض المبادرة والعملية السياسية من منطلقات متباينة. بعضهم من منطلق أن نجاح العملية السياسية سيؤسس لدولة ونظام جديدين يجعلان نظامهم السابق من الماضي. وبعضهم كان يعتقد أن البديل هي الحرب التي ستضعف الطرفين وستهيئ له فرصة أن يصبح الأقوى في معادلة الحكم. والبعض الآخر تعامل مع الثورة من منظور رومانسي لا يخلو من التماهي مع استعارات تاريخية لثورات لم يعد بالإمكان إسقاطها على حقيقة أن ثورة فبراير شملت كل الطيف اليمني باختلاف رؤاهم السياسية والفكرية، وأن القاسم المشترك بينهم كان هو الديمقراطية وليس البرامج الفكرية؛ مما يعني أن انتصار الثورة لن يتحقق بإسقاط النظام وإنما ببناء الدولة الديمقراطية. والبعض الآخر أخذ يعارض بصخب، ويعنف الجميع، بدون رؤيا بديلة محددة، ويستخدم الأخطاء والإخفاقات التي نشأت أثناء التنفيذ لدعم مواقف تقترب من العدمية المطلقة. لم يكن بالإمكان تجنب الانزلاق نحو الحرب إلا بصيغة للعمل السياسي الملتزم بأهداف الثورة. والأهداف التي نقصدها هي ذلك القاسم المشترك المتمثل في إقامة دولة مدنية ديمقراطية توفر فرصة التنافس لكل البرامج السياسية والاجتماعية والفكرية لمختلف القوى السياسية.
-5-
في تحليل مسار هذه العملية، يمكننا القول إن القوى التي تصدت لهذه العملية التاريخية تعثرت في الوصول بها إلى غاياتها الحقيقية حتى الآن، ولكن لأسباب لا صلة لها بصحة الخيار السياسي؛ وإنما بالإدارة وبالظروف التي أحاطت بالعملية السياسية بمجملها فيما بعد.
كم هي الخيارات الصحيحة التي تفرضها معادلات وموازين الصراع السياسي على الأرض في لحظة معينة، ثم لا تلبث أن تصطدم بمقاومة الواقع الذي ينشئ معادلات مضادة انسجاما مع حراك مصالح البشر المتغيرة وغير المستقرة. لسنا هنا بصدد البحث في أسباب هذا التعثر في الوصول بهذه العملية المركبة إلى غاياتها، فهي كثيرة ومتنوعة. منها ما له علاقة مباشرة بهذه القوى، ومنها ما له صلة بالواقع المعقد والمتداخل الذي تمت فيه هذه العملية. ومنها، وهو الأهم، ما له علاقة بالكيفية التي أديرت هذه المرحلة وشرعيتها التوافقية. وبداية، لا بد من الإشارة هنا إلى أنه لم يكن هناك من يعتقد أن السير في هذا الطريق سيتم بدون مقاومة شديدة أو بدون صعوبات ضخمة، فالتغيير السلمي هو عملية نضالية في الأساس تحيط بها الصعوبات من كل جانب، ويحيط بها المتربصون من كل ناحية. وكنا نرى أن أشد المخاطر عليها هي التي ستأتي من داخلها بالقياس مع تلك التي يضخها الواقع المعقد، وهذا ما أثبتته الأيام. غير أن أهم ما يمكن الإشارة إليه بهذا الصدد هو غياب الانسجام بين القوى التي تحملت مسئولية قيادة وإدارة هذه العملية. كانت المحصلة النهائية لغياب هذا الانسجام هي أن أخذ صراع الإرادات يسيطر على الموقف، ويمرر اختياراته بطريقة تتعاكس على نحو مستمر مع شروط نجاح العملية السياسية. كان عدم نقل السلطة هو المظهر الرئيسي لصراع الإرادات تلك، فقد تم التعامل مع قضية نقل السلطة بطريقة مهينة للعملية السياسية كلها (شرحت ذلك بوضوح في "عبور المضيق"). ثم رأينا كيف جاءت إلى كثير من المواقع التنفيذية المؤثرة عناصر لا تشعر بأي التزام أدبي أو أخلاقي تجاه العملية السياسية، وكان بعضها يعمل على تعطيل هذه العملية من موقعه التنفيذي الذي يمنحه القوة والحماية. وفي اتساق مع هذا الوضع، تراكمت جملة من العوامل التي أخذت تضعف المسار السياسي وتفتح الطريق مجددا أمام مشروع الحرب الذي راح يفتح لنفسه ثغرات كبيرة في جدار هذه العملية التي أخذت تتحول من الهجوم إلى الدفاع. وكان أكثرها سلباً هو أنها انتقلت من أيدي القوى السياسية إلى أيدي السلطة؛ أي من طابعها السياسي إلى طابعها السلطوي. إن أخطر ما واجهته هذه العملية هو أنها أديرت بأدوات سلطوية، في حين تراجعت الأدوات السياسية إلى الخلف. وربما كان لذلك أسبابه الموضوعية المتمثلة في بروز صراع الإرادات بين معظم القوى التي جاءت إلى السلطة التوافقية من رحم النظام القديم. كما أن الصراع السياسي الملتبس بأيديولوجيات دينية كثيراً ما تدخل ليعرقل المسار السياسي عند أكثر من محطة. لقد تسلل مشروع العنف والحروب من هذه الثغرات، وأخذ يستقطب مساحات واسعة من البلاد وقطاعات مؤثرة من الشعب، واستطاع في فترة زمنية قصيرة أن يفرض على الأرض اختياراته من خلال الحديث مجدداً عن "تجديد المجتمع"، ولكن بعبارات أخرى مشتقة من الحاجة المجتمعية التي ولدتها إخفاقات وأخطاء مرحلة السلطة التوافقية، وتأخر إنجاز العملية السياسية. لقد حمل رافعو هذه الشعارات أنفسهم مسؤولية ضخمة عندما تحدثوا عن إعادة بناء قيم الشراكة في بناء الدولة ونظامها السياسي الديمقراطي، ومكافحة الفساد، وتنفيذ مخرجات الحوار الوطني، دون أن يحسموا أمر الأدوات التي ستمكنهم من تحقيق ذلك. إن فخ القوة يعيد إنتاج نفسه مجدداً ليكتشف المبشرون الجدد بالـ"تجديد" أن الإرادوية منطق مخادع في كل الأحوال، وخاصة عندما تسلك هذه الإرادوية طريق العنف، فقد يكون العنف والحروب أقرب طريق إلى السلطة، لكنها بالتأكيد لا تكون إلا طريقاً متوهاً وغير معبد عندما يتعلق الأمر بالأهداف.
غالباً ما تتجسد الإرادوية في مثل هذه الظروف في إنتاج صيغها الخاصة بالأهداف في صورة شعارات لها رنين خاص، والتي يتلاشى رنينها بمجرد أن تحسم معركتها على الأرض. ثم تبدأ مرحلة جديدة يتوجب فيها على هذه الإرادوية أن تكتشف حقيقة الواقع الذي تتحرك فيه وكذا طبيعة الأدوات التي تحتاجها في معاركها القادمة. الذين واصلوا مراحلهم اللاحقة بأدوات الحروب والعنف فشلوا. وربما أدرك خصومهم، في كل التجارب البشرية، هذه الحقيقة فعملوا على إغراقهم فيها.
-6-
هذه هي طبيعة الحروب ونتائجها؛ فالشراكة اليوم، مثلاً، باعتبارها مفهوما سياسياً نصت عليه اتفاقات عديدة بين القوى السياسية، حولتها الحرب، بالنتيجة، إلى جغرافيا مغلقة بما انطوت عليه عند بعض الأطراف من نزعات يتجاذبها شعور بالتفوق العسكري يصاحبه إحساس تاريخي بالحرمان من ناحية، وشعور بامتلاك الفرصة التاريخية لتعويض هذا الحرمان من ناحية أخرى. وهي عند أطراف أخرى أداة مساومة بالحد الذي يمكن أن يحقق ميزانا أو تفوقاً في معادلة الحكم، وعند أطراف أخرى هي صراع من أجل الحفاظ على ما تحقق من مكاسب في أزمنة سابقة. عند هذه المفاهيم أُغلقت جغرافية الشراكة وذلك بالوضع الذي استقرت عليه وبالأدوات المنفذة لها. أي أن مشروع الحرب، الذي انخرط فيه الجميع ، والذي راح يتجدد من آونة لأخرى وتحت عنوان "التجديد"، أعاد صياغة الشراكة على نحو مختلف تماما عن مفهومها الذي أنتجته الثورة السلمية باعتبارها تسوية تاريخية تبدأ من الشراكة الحقيقية في حل القضايا الوطنية التي ترتبت على مسلك نظام فاشل في التعاطي مع الوحدة وتدميرها، وخاصة قضية الجنوب، ومسؤولية بناء الدولة وإدارتها بقواعد تضمن حق الجميع في العمل والتوظيف والترقي، وحقهم في ممارسة الاختيارات السياسية، وحقهم في الثروة وفي التعليم والخدمات الصحية، وحقهم في حياة آمنة ومستقرة وفي التملك وممارسة النشاط الاقتصادي والتمتع بالحقوق والحريات التي تكفل لهم العيش الأمن والكريم. باختصار حقهم في الحصول على "وطن" من واجبهم في حمايته والدفاع عنه وبنائه وتطويره.
إن ما تسمى بالشراكة اليوم هي انعكاس لموازين القوة التي تحركت في اتجاهات مختلفة طوال عقود لتنتج هيمنة أطراف بعينها وتشكل جوهر الصراع في هذا البلد، وهي مجرد نموذج للجغرافيا المغلقة التي أنتجتها الحروب، وأكسبتها مفهوما مشوها حددته الحاجة عند مختلف هذه القوى في توظيفها بما يحقق مصالحها فقط. لقد جرى إغلاقها في دائرة القوى المتصارعة لتبدو وكأنها استجابة لما ينتظر السياسة والثقافة والسلوك الاجتماعي من تبدلات جوهرية ستواصل تمزيق النسيج الاجتماعي لتضع البلد كله في فخ الصراعات التي قد تنتهي به إلى انهيارات كبرى.
-7-
لا يمكن أن تكون الحروب الأهلية حلا، كما أنها، بطبيعتها، لا تنتج أي حل يستوعب المشكلات المعقدة للمجتمع، ولم تكن كذلك في أي يوم من الأيام في تاريخ هذا البلد. ظلت الحروب تهيئ الأسباب للعنف ولحروب متتالية بعناوين مختلفة وأهداف واحدة، وهكذا. الشعوب الحية لا أحد يستطيع أن يقنعها بأن الحرب أو العنف طريق لبناء المستقبل؛ لأن الحروب كانت دائما ما تصادر مستقبلها وتأخذ الجزء الأكبر من لقمة عيشها ومن كرامتها، لتكافئ المنتصر. باسم الشراكة، يدخل اليمن اليوم مأزقا خطيراً تعيش فيه البلد فراغا سياسيا خطيرا بعد استقالة الرئيس التوافقي هادي وكذا حكومة بحاح. والحقيقة إن أي محاولة لحل الإشكال القائم اليوم على قاعدة أخرى غير شرعية التوافق التي أسست لقواعد مشتركة من التفاهم بين الأطراف المختلفة على بناء الدولة سيكون مصيرها الفشل، وستدخل البلد في اضطرابات خطيرة. وبهذا الصدد، أرى أن تضبط إدارة الشرعية التوافقية بجملة من الإصلاحات الهامة التي من شأنها أن تعالج الثغرات التي رافقت هذه الإدارة خلال الفترة الماضية. إن الذهاب إلى شرعيات أخرى في هذه اللحظة وتحت أي مسميات كانت سيؤسس لمرحلة من الفوضى وعدم الاستقرار. ولا بد بهذا الصدد أن تضع القوى السياسية وأنصار الله مع الرئيس هادي جملة من التوافقات تكون بمثابة قواعد لخارطة طريق توصل البلاد إلى انتخابات تكون بداية حقيقية لوضع البلاد على طريق الاستقرار والتنمية.
* نقلا عن الاشتراكي نت