الخميس ، ٢٥ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٦:٢٦ مساءً

لهذه الاسباب استحقت كرمان جائزة نوبل أكثر من غيرها

فؤاد عامر
الاثنين ، ١٧ اكتوبر ٢٠١١ الساعة ٠٨:٢٠ مساءً
جاء تكريما مستحقا للناشطة اليمنية توكل كرمان واعترافا وتنويهاً بنضالات الشباب العربي و اليمني خصوصاً, والذي مازال مرابطاَ في ساحات الثورة منذ مايزيد عن تسعة اشهر دون ان يعتريه يأس أو احباط أو ملل... وجاء تكريماً مستحقاً كذلك لبلد يعاني كثيرا من التهميش الاعلامي في العالم العربي قبل الغربي الذي لاتأتي اخبار ثورته الا في الصفحات الداخلية وفي مقتطفات الاخبار لوسائل الاعلام العالمية.

جاء التكريم جديرا بناشطة كانت من أوائل من ثار على القهر والظلم والتهميش الذي تعاني منه شعوبنا والشعب اليمني خاصة, فمنذ العام 2007 دشنت الشابة التي لايتحاوز عمرها الثانية والثلاثين عاما "ساحة الحرية" التي تكتنفها رئاسة مجلس الورزاء في العاصمة اليمنية صنعاء, واصبح يوم الثلاثاء من كل اسبوع – يوم الانعقاد الاسبوعي للمجلس – ساحة للانتصار لكل المظلومين والمسحوقين من أبناء الشعب اليمني, ولمقاومة ورفض الانتهاكات المتعلقة بحرية الصحافة وحقوق الصحافيين والاعلاميين.. وعلى نحو شبه يومي نذرت هذه الشابة حياتها لقضايا وطنها ومجتمعها الكثيرة, ولا يكاد يمضي يوم دون ان يكون فيه لتوكل حضوراً ودورا في انشطة وفعاليات المناصرة والتحشيد والضغط المنحازة للانسان اليمني وحقوقة وحرياته.

خلافاً عن كثير من الحقوقيين تمتعت توكل برؤية نضالية عميقة وجامعة حين كانت ترى ان كل المشاكل المرتبطة بالحقوق والحريات والاقصاء والتهميش الحاصل في بلدها, منبعه الاساسي طبيعة النظام السياسي الحاكم, وارتقت بنضالاتها الحقوقية الجزئية الى نضال جامع ومباشر ضد نظام الرئيس اليمني علي عبدالله صالح عبر دعوتها للخروج الى الشارع واسقاط النظام بالوسائل السملية منذ العام 2007, وهي دعوات كانت غريبة حينها للمتابعين ولاحزاب المعارضة كذلك, التي كانت تطالبها توكل بالخروج الى الشارع بدلا من ذلك النوع من المعارضة المحتشمة والخجولة في أروقة المقارات.

خروجها للنضال في قلب صنعاء جاء متزامنا مع نضال اخر سلمي وقوي قامت به قوى الحراك السلمي جنوب اليمن, وأعلنت حينها الناشطة توكل انذاك تضامنها المطلق مع مطالب شعبها في الجنوب, في وقت كانت تتحرج فيه تعبيرات سياسية كثيرة عن اعلان تضامنها مع الحراك الجنوبي خوفاً من قمع وأذى سلطة صنعاء.

منذ العام 2005 شهد اليمن استهدافا منظما وممنهجا للصحافيين مع بدء الانتقادات لمشروع التوريث لابن الرئيس اليمني, فقادت هذه الناشطة تحركات ميدانية تضامنية مع كثير من الصحافيين الذي كان يتم استهدافهم بشكل دائم على خلفية اعمالهم وتغطياتهم للاحداث. ورغم ان توكل صحفية ومثقفة, الا انها - خلافا لكثير من المثقفين- لم تكتف بالجلوس وراء المكاتب, واستطاعت ان تمزج قناعاتاها بتحركات ملموسة في مجتمعها,

وفي الوقت الذي كان فيه مجاميع من شعبها في منطقة الجعاشن اليمنية يهجرون من قبل شيخ موال للنظام كانت تحركات هذه الناشطة وزملائها بلسما لكثير منهم وبما يشعرهم بحد ادنى من الانتماء لوطن وشعب خذلهم في نصرة قضيتهم, وهي مشاعر سمعتها من احد مهجري هذه المنطقة في تبادل للحديث معه خلال هذه الثورة حين كان يحيل في حديثه الى "ماما توكل" رغم انه يكبرها بسنوات كثيرة.

هذه "السيرة" النضالية لتوكل كرمان أسهم في فرض اسمها على كثير من الفعاليات والمنظمات الحقوقية, واكتسبت على خلفية ذلك قاعدة احترام عريضة جعل منها عنصرا مؤثرا في الحياة العامة في اليمن, رغم محاولات جهات كثيرة التقليل من شأن ماتقوم به.

لم تكن توكل وحدها هي التي ناضلت فهناك العشرات والمئات من الناشطات والنشطاء الشباب في اليمن, جاؤا قبلها ومازلوا يأتون, ولكن بنفس الوقت كانت من القلائل الذين لم يكونوا يتوقفوا بسبب بطش السلطة وقمعا وتهديداتها, وكانت تخرج بعد كل محنة اشد واقوى عزيمة من ذي قبل.

جاءت الثورة التونسية – اللحظة الفارقة في التاريخ العربي الحديث - ورأت فيها الناشطة وكوكبة من الشباب اليمني مصدر الهام للشعب لطالما افتقده الشعب اليمني بسب من فشل النخب السياسية والمثقفة في توصيل الشعب الى مرحلة ما من الالهام الثوري المؤسس للتغيير الشامل في اليمن, وفي مقابلة مع الناشطة توكل مع قناة الجزيرة يوم 16 يناير- بعد يومين من سقوط بن علي – صرحت فيها ان مصير علي عبدالله صالح كان يجب ان يسبق مصير بن علي لانه كان اسوأ من هذا الاخير بمراحل, ولان الشعب اليمني قد بدأ حراكه السلمي منذ العام 2007 انطلاقاً من الجنوب, رغم ما احاط هذا الحراك في ذلك الوقت من تهميش اعلامي وسياسي كبير داخل اليمن وخارجه, وأعلنت توكل حينها صراحة ان الشباب اليمني لن يكون اقل شجاعة من اقرانه في تونس وان الايام ستبثت ذلك وانهم سيخرجون لاسقاط النظام .

وهنا تحديدا يكون تكريم توكل تكريما لكل شباب اليمن الثائر الذين التقطوا طرف الخيط وقاموا بتدشين مجموعة من الفعاليات الاحتجاجية شبه اليومية في نطاق جامعة صنعاء وجوارها رغم أن أعدادهم لم يكن يتحاوز العشرات أول الثورة.
خروجها في السادس عشر من من يناير تلاه اعتقالها وغيرها من النشطاء الشباب وهو ماقاد الى مظاهرات حاشدة بعشرات الالاف عند مبنى النائب العام للمطالبة بالافراج عن الناشطة الشابة, وحينها تفاجأ اثنان من امناء عموم احزاب المشترك من حجم التجاوب مع الناشطة توكل, وأعلنوا حينها ان الوقت قد حان للنزول الى الشارع لتنطلق بعدها بايام أول تظاهرة كبرى في الثالث من فبراير2011.

جرت ايام قلائل, ولم تمض سوى ساعاتان فقط على سقوط الرئيس المصري في العاشر من فبراير, وحينها استلهم الشباب اليمني نموذجا اخر قادما من شباب مصر هذه المرة, ليتم على اثره انتقال التحركات المناهضة لصالح من مرحلة الاحتجاحات الى مرحلة الثورة, عبر تدشين اول ساحة اعتصام في تعز جنوبي اليمن لتنتقل بعدها الحالة الثورية تدريجيا الى جميع المحافظات اليمنية.

اسهمت توكل مع الشباب اليمني بدور فاعل في هذه الثورة وتصدرها وهو ماجعل التفاعل معها كبيرا من جميع فئات الشعب, ولمدة شهرين تقريبا كان هناك انسجاما كبيرا بين الشباب والقوى السياسية المعارضة الى ان توترت العلاقة مع الشباب اثر دخول المعارضة في حوار حول المبادرة الخليجية, وخونت اثر ذلك مجموعة من الشخصيات والفعاليات الشبابية وعلى رأس هذا الشخصيات جاءت توكل بسب من ثوريتها " الزائدة عن الحد " بحسب تعابير الشباب المتحزب آنذاك.

هذه "الثورية الزائدة" ادت الى امتعاض في اوساط كثيرة داخل قيادات حزبها, ومازلت اتذكر على نحو شخصي مقابلتي لمجموعة من شباب حزبها عشية مسيرة 20 ابريل الماضي والتي كان مقررا لها أن تتجه الى رئاسة الوزراء, وذلك بغرض تذكيرهم بموعد المظاهرة, وقالوا لي بان توكل اذا ارادت ان تزحف لمؤسسات الحكم فلتزحف لوحدها فنحن لسنا معها في ذلك, ليعقب اخر باتهامه للناشطة بارتباط مرافقاتها بأجهزة المخابرات اليمنية (الامن القومي والسياسي).

توكل حين خرجت لتناضل تركت اجندتها الضيقة والحزبية وانتقلت الى فضاء القيم الوطنية والانسانية الجامعة, وتعود قيمة ماتمثله هذه المرأة في جانب كبير منه الى ايديولجيتها المتمثلة في "اللايديولوجيا", فهي تؤمن بما اصبح مايمكن ان نسميه "دينا" خلاصيا للانسانية الجديدة والمتمثل في تلك القيم العالمية الجامعة المتعلقة بحقوق الانسان والحريات العامة والخاصة, وفي القلب من ذلك يأتي الانسان كقيمة محورية ومطلقة, من المفترض ان تدورحوله كل الايديولجيات والنظريات والسياسات الداخلية أو الخارجية للدول, وبغض النظر عن اية خلفيات تفرز هذا الانسان على اساس ديني أو اثني اوعرقي أوجهوي او ماشابه.

انسجاما مع هذه الرؤية راينا توكل ترسم مسافة فاصلة كاملة وكافية بينها وبين حزبها, واعلنت تعليق عضويتها من حزبها وتعلن انحيازها التام للثورة واستحقاقاتها "فلاصوت يعلوم فوق صوت الثورة", وهو امر لو فعله بقية رفاقها في حزبها لكنا الان ننعم بثمار الثورة والحرية في اليمن ومنذ أشهر طويلة.

توكل وغيرها الكثير من نشطاء الربيع العربي يستحقون جائزة نوبل غير انها تزيد على معظمهم, في كون نضالها يأتي معززاً بمسيرة نضالية طويلة ومتركزاً بالدرجة الأولى على نضالها بالشارع والاماكن العامة والخطرة أكثر منه في العالم الافتراضي.

توكل كذلك استحقت الجائزة والتكريم كغيرها من النساء العربيات لكن استحقاق توكل للجائزة اكثر من اي إمرأة عربية اخرى, يأتي كذلك لجهة بيئتها الصعبة والمعاكسة لأي أدوار عامة مفترضة قد تقوم به المرأة العربية, فظروف المرأة في اليمن اقسى من اية ظروف قد تحيط بالمراة في تونس أو في مصر أو في سوريا أو حتى في البحرين ولييبيا.. في بلد يعج بالمحرمات الدينية والمجتمعية والسياسية, ولكن استطاعت هذه المرأة الاستثنائية أن تتجاوز كل هذه التابوهات ولتقود مع الشباب اليمني ثورة ستغير مسار التاريخ اليمني في العقود القادمة.

ستدرك المراءة اليمنية – والعربية كذلك- بعد هذا الفوز ان المجتتمع اليمني وان ابدى قسوة ما تجاهها الا انه سرعان مايعترف بها بمجرد ان تبدأ باثبات ذاتها, بل وسيذهب المجتمع الى ابعد من ذلك حين يسلمها زمام القيادة والمبادرة على نحو مارأيناه في المسيرات التي تخرج بعشرات الالاف من الرجال الذين لم تمنعهم حمية الرجل الشرقي عن السير وراء امرأة اقتنعوا بقدراتها ورؤيتها المنسجمة مع قناعاتاهم.

أردنا أن نتحدث هنا عن القمية "التوكلية" وليس توكل بحد ذاتها, وماتشكله هذه الشابة من قيمة رسالية داخل وخارج مجتمها, وهي القيمة التي انصفتها جائزة نوبل, وكان من الظلم والمجحف ان لاتتوج هذه المسيرة النضالية بتكريم من هذا النوع أو على الاقل بتكريم يقترب منه.

نتمنى اخيرا ان يكون فوزا "بلقيس الجديدة" فاتحة خير ونصر لليمن الجديد وللشعب اليمني الذي خرج باحثا عن خلاصه, وعن أمله باسترجاع بعض من "سعادة" كانت قد اسقطت من فصول أسفاره الاخيرة.