الجمعة ، ٢٦ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٦:١٥ مساءً

تسلم الأيادي

د. محمد الحصماني
الثلاثاء ، ٢٢ اكتوبر ٢٠١٣ الساعة ٠٩:٤٩ مساءً
لا أدري لماذا تتقافز إلى ذهني مقولات الفيلسوف الإغريقي الكبير أرسطو طاليس عن الطغيان والاستبداد الشرقي؛ كلما تأملت كلمات الأوبريت الإنشادي “تسلم الأيادي" الذي أهدي للجيش المصري والفريق السيسي عقب الانقلاب العسكري الذي أطاح بالحياة الديمقراطية الوليدة في مصر, وألغى الشرعية الدستورية, وعزل الرئيس المنتخب, وأقدم على إحراق اعتصامي رابعة والنهضة وتجريف جثث المعتصمين, وقتل واعتقل عشرات الآلاف من المصريين الرافضين لحكم العسكر.

وهو ما يضع الأوبريت والجهات الفنية والسياسية والإعلامية التي أنتجته وتبنت دعمه والترويج له في سياق تقبل وتأييد ومباركة تلك الأفعال الإجرامية التي لا تصدر إلا عن نظام دكتاتوري مستبد أو سلطة طاغية. وربما لذلك تداعى إلى ذهني مقولات أرسطوكونها تشيء بطبيعة الدوافع النفسية الكامنة لدى من يستهويهم الاستبداد ويستمتعون بقسوة المستبدين وإجرامهم في حق شعوبهم.

لقد تحدث أرسطو في كتابه (السياسة) إبان القرن الرابع قبل الميلاد– أي منذ ما يزيد عن 2400 عام مضت - عن الطغيان, وقسمه - من حيث تعامل الناس معه وتقبلهم له – إلى: طغيان غربي: وعنى به الطغيان في الدول الأوربية واليونان القديم, وطغيان شرقي:وقصد به الطغيان في مصر وبلدان شرق آسيا, وباستقراء تاريخ الطغيان لدى شعوب تلك الأمم وجد أن أسوأ صور الطغيان وأشدها قسوة تتجسد في الطغيان الشرقي, وأفضى تفسيره لتقبل الشرقيين للطغاة واستسلامهم للمستبدين إلى نتيجة خطيرة جدا, لخصها بقوله:يتمثل الطغيان بمعناه الدقيق في الطغيان الشرقي حيث نجد لدى شعوب الشرق خلاف الشعوب الأوربية – طبيعة العبيد, وهي لهذا تتحمل حكم الطغاة بغير شكوى أو تذمر... ويقول أيضا:"إن الرجل الحر لايستطيع أن يتحمل حكم الطاغية, ولهذا فان الرجل اليوناني لايطيق الطغيان , بل ينفر منه أما الرجل الشرقي فانه يجده أمرا طبيعيا, فهو نفسه طاغية يعامل زوجته في بيته معاملة العبيد ولذا لا يدهشه أن يعامله الحاكم كعبد" وانطلاقا من تلك القناعات بعث أستاذ الفلسفة الأول إلى تلميذه الإسكندر الأكبر-أثناء غزوه لمصر وبلاد فارس- رسالة ينصحه فيها بمعاملة اليونانيين كقائد وان يعامل الشرقيين معاملة السيد لأنهم بطبيعتهم عبيد.

فهل هي طبيعة العبيد عند من ارتضوا أن يكافئوا بهذه الأغنية خيانة السيسي وانقلابه على الحياة الديمقراطية, وشطبه لإرادة الشعب المصري الذي اختار بكامل حريته قيادته السياسية ومشرعي قوانينه. ولما لا تكون طبيعة العبيد؟ إذا كان التاريخ يكرر نفسه..!! فالطاغية الذي استطاع أن يصطنع له في كل عصر من يسانده ويبرر جرائمه, بين وزير ضال أو فقيه فاجر أو شاعر متملق؛ لن يعدم الحيلة في اصطناع الأذرع الإعلامية والفنية والثقافية وحتى الحزبية التي تؤازر مشروعه وتدافع عن استبداده في هذا العصر.

إن النفوس السوية المركوز في طبائعها عشق الحرية والكرامة والإنسانية تأبى عشق الطغاة والتغني بقسوتهم أومناصرتهم في ظلمهم, حتى وإن بدا فعل الطغيان واقع على الغير وليس عليها بشكل مباشر, فالطغيان لا يمجده سوى العبيد والأذلاء وعديمي الإنسانية ومن جبلت نفوسهم على الكذب والمهانة, كما لا يساند الطاغي إلا من هم في الحقيقة على شاكلته وبذات تركيبته النفسية والأخلاقية, يقول خير الدين التونسي: "إن المأمورين في دولة الاستبداد كل واحد منهم مستبد على قدر حال مأموريته" والناظر في أطاريح الإعلام المصري ومقولات المشاهير من الرموز السياسية والإعلامية والفنية المناصرة للانقلاب العسكري والفريق السيسي, ومساعيهم المتبجحة لتثبيت حكم العسكر وإعادة إنتاج النظام البوليسي القمعي الذي حكم مصر في الستين السنة الماضية وأوصلها إلى حافة الانهيار والدول المتسولة؛ سيجد أن كل واحد منهم يحمل بداخله مستبد صغير وطاغية ضئيل, ولكنه من الضآلة بحيث اكتفى بدور التابع والمروج والمبرر لجرائم الانقلاب وقائده السيسي.

"تسلم الأيادي" ينبغي أن تقال لمن قاوموا الطغيان ورفضوا الانقلاب وناهضوا سلطة الاستبداد المدعومة من العسكر على مدى نصف قرن من الزمان حتى أسقطوها في 25 يناير 2011م.
"تسلم الأيادي" نقولها لتضحيات الثوار ودماء الشهداء ونزيف الجرحى وصمود المعتقلين.
"تسلم الأيادي" لكل من أدرك ويدرك أن:
مأساتنا عشق الطغاة كأننا *** لم ننس بعد عبادة الأصنام
ما مر طاغية أمام حديقة *** إلا ومات الزهر في الأكمام