الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ١٢:١١ صباحاً

مسيرة الحياة في ذكراها الأولى ( 2_3 )

وائل حسن المعمري
الثلاثاء ، ٢٥ ديسمبر ٢٠١٢ الساعة ٠٦:١٠ مساءً
في الجزء الأول من موضوعي هذا الذي خصصته لمسيرة الحياة في ذكراها الأولى ,أفردت في تناولتي الحديث عن محطات بعينها إعتقدت أن التعريج عليها أمر لابد منه من باب ظرورة عدم إغفال جانب مهم من جوانب تسلسل أحداث المسيرة الزمنية وما أرتبط بها من أحداث تستحق أن تولى الأهمية التي ينبغي , لتوثيق ما أمكن من المشاهدات الملحمية للمسيرة المعجزة ..
تلك الثورة المتفردة والفريدة من نوعها وما أرتبط بها من حراك نوعي بديع ومذهل حقآ , ويستحق كل ذكرمتأن ومفصل , آخذين بعين الإعتبار أن كل ذلك لا يأتي إلا من زاوية واحدة هدفها الأساس , استقاء العبر من تفاصيل مسيرتنا للحياة والحرية والعدالة واستخلاص دروسها الكثيرة والهامة...
واليوم في الجزء الثاني سنحاول أن نخصص جله , إن لم يكن جميعه لليلة واحدة وواحدة فقط., هي لربما الأكثر إثارة وتشويقآ في مسار أحداث مسيرة الحياة, إن لم نقل الأهم بين كل الليالي والأيام في عمر مسيرة ثورة الحادي عشر من فبراير المجيدة مجتمعة ....

ليلة أريد لها أن تكون قاسمة للمسيرة وظهرها.. ومثبطة لمعنويات شباب الثورة وعزائمهم , ليلة أجتهدت فيها كل عناصر شر الثورة المضادة وطوابيرها, بخبثهم ولؤمهم .. وسخروا لها كل وسائل الحقد ولم يستثنوا منها ليلتها في خدار شيئآ ..أرادوها حقدآ .. وأردناها مشعلآ للحرية .. وكتب لنا فيها الله العزة والغلبة والثبات .

خدار وليلتها القاسية ,خدار التاريخ الآثم والحقد الدفين من قبل هولاء وفلولهم هناك وفي الجوار قبل وبعد خدار , مع شديد حبنا واحترامنا وجزيل إمتناننا لأهلها الذين كانوا لنا خير سند بما أمكن الخيرين والأحرار منهم فعله وتقديمه وفي حدود ما امكنهم ذلك..

خدار الزمان والمكان والحدث كذلك.....فبعد أن تجاوزت جموع الثائرين نقطة التفتيش الأولى في نقيل يسلح والتي كانت بمفردها من أكبر منغصات المسيرة وأشدها ألمآ علينا, كان علينا أيظآ أن نخضع بعد أقل من ساعة وربع مسير تقريبآ لنقطة أخرى عسكرية , أريد لها أن تكون مرتكزآ لأولى حلقات التآمر على المسيرة وبوضوح جلي تمامآ.

فما إن انطلقنا صوب هذه الثكنة الأمنية للتفتيش بعد أن أدينا صلاة المغرب ,حتى بدأ استفزازنا بشكل لم يصدق حينها ولم نستطع حتى تخيلة ,ولكن مع كل ذلك كنا ننتظر ما هو أسوأ وأشد وطأة على النفوس وعزائنا اننا جئنا نطلب الموت لتوهب لنا الحياة ..فتجاوزناهم بشق الأنفس ثم واصلنا سيرنا نحو هدفنا كما تم الإعلان عنه من قبل اللجان المنظمة قبل هذه النقطة الأمنية , والتي كانت حسب التعليمات المعلنة حينها عبر الميكرفونات مدرسة خدار ..

خدار التي لم يكن أحد منا تقريبآ يعلم مكانها بالظبط ولم نسمع حتى عنها يومآ , لكنه كان من المقرر أن تتقدمنا بعض سيارات اللجنة المنظمة لإيقاف مقدمة المسيرة وتوجيهها للمدرسة ومن ثم التوقف للمبيت هناك ..

وهنا بدأت فصول الجريمة الشنعاء بحقنا, فقد حجزت كل اللجان الإعلامية والسيارات التي تحمل أجهزة الصوت , التي كانت بحق تمثل لهكذا مسيرة بمثابة عيونها التي نبصر بها وأذانها التي بدونها قد تصاب بالصمم , بل وأفئدتنا التي نعقل بها..

لجاننا الإعلامية والتنظيمية عمومآ يتم احتجازها بالكامل ومع سبق إصرار وترصد تام , نعم هكذا إذآ بوصلة المسيرة وحلقات وصلها تحتجز جميعها دون إستثناء في خطوة أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها عبثية ومقيتة حاقدة..,

ومع كل ذلك الزخم الثوري وفي ظل تلك الحشود الكبيرة من الثوار وحلول الظلام وعدم إدراكنا لما كان ينتظرنا ليلتها بالتحديد من تفاصيل مسرحية الحقد الأعمي ,ظلت جموعنا تهتف لليمن , بزمجرات تهتز لها الجبال وتنصت لها وديان خدار وتشتاق لسماعها ربى مدينة سام الحبيبة هدفنا ومبتغانا في نهاية المطاف..

نعم واصلنا مسيرنا غير آبهين وبإتجاه لا نعلم عنه شئ , ضنآ منا أننا في مكانآ ما من ها هنا سنكون حسب الوصف على موعد مع خدار ومدرستها المشودة.. وقد خاب ضننا ليلتها واستمرت حكاية السير في التيه.. نسيروكل أملنا أن نلتقي لجاننا التنظيمية لترشدنا طريق المدرسة في خدارالمرجوة بحنين كبير وأمل في حضن ما يعصمنا من قساوة الطبيعة ومكر الخبثاء من البشرعلى حد سواء ..

وعليه فقد واصلت الجموع سيرها في ليل حالك السواد , وبرد قارس لا يطاق قد يصصعب شرحة في كلمات .

كنا في مقدمة المسيرة تقريبآ ولا نملك غير السير ومواصلة ترديد الهتافات وشحذ الهمم.. نلتقي بعض أفراد القبائل على جنبات الطرقات وفي عتمة الليل , ولا نكاد نميزهم حتى إن كانوا مسلحين أم عزل , شباب أم شيوخ ؟ والأهم من كل هذا إن كانوا من مواقع تمترسهم هذه يحموننا أم يتربصون بنا ؟ لكن الحقيقة أقولها أننا لم نكن حتى نكترث لكل هذه التفاصيل ولا لتبعاتها أي كانت, وقد تعاملنا معهم من منطلق الثائر الذي جاء ليوصل رسالة الثورة وأخلاقها وأي كان هذا الإنسان الذي يرقب حركتنا لحظة بلحظة ويحصي حتى علينا أنفاسنا.
فقد كنا مثلآ نصر على تحيتهم كلما صادفناهم بهتافنا المعبر عن الشكرلهم ولجميلهم في أفضل الأحوال ونردد : حيوا القبائل حيوهم ..حماة الثورة حيوهم..

واصلنا مسيرنا لما يقارب من الخمس والأربعين دقيقة تقريبآ ,حتى بدأ الشك يساورنا أن شئ غير اعتياديا يحدث لنا ,إذ لا يعقل أن تكون خدار بعيدة إلى هذا الحد عن مكان نقطة إنطلاقنا بعد صلاة المغرب ..وهذا على الأقل ما كانت توحي به إرشادات اللجنة الإعلامية ..!

فماذا حدث إذآ نتسائل ونسير والشك يساورنا من شئ ما غير مفهوم ولكنه في نفس الوقت كان من المستحيل علينا أو على بعض مجاميع المسيرة منا التوقف دون تعليمات ..,

سيرنا كان منهكآ ومتثاقلآ أحيانآ في أجواء شديدة القساوة, وكلما زادت مسافة المسير زادت استفسارات الثوار عن ماهية الذي يجري لنا ويحاك؟ لكنه لم يكن أمامنا سوى السير حتى نجد من يستقبلنا على أمل أن يكون حدسنا في غير محلة وتكون محطتنا خدار على مقربة من مكاننا وليس أبعد من ذلك ,,وإذ نحن على هذا الحال من السير والشك والإرتياب في آن واحد ,فإذا بأحد الأشخاص من أبناء القبائل المرافقة والحامية لنا في إطار منظقة خدار,إذا به قادم على سيارة وينادينا وبأعلى صوته من الخلف ووسط الجموع ويطالبنا بالرجوع إلى خدار, لأننا كما أشار قد تجاوزناها بكثير ....وهنا كان الإختبار الحقيقي الأول للثوار وحسن التصرف في ظل غياب تام لأي من اللجان التنظيمية المختصة .!

أتذكرحينها كيف ثار البعض غاضبآ ,وكيف فقد البعض الآخر أعصابه تمامآ وهو يتحدث إلى هذا الرجل ويستطرد مستفسرآ ومتعجبآ عن كيف يمكن لمثل هذا أن يحصل؟ وأين لجاننا التنظيمية ؟ وأين أهل المنظقة؟ ....وأين.. ولماذا .. وكيف ؟؟ سيل من الإستفسارات وعلامات الغضب والتعجب , ولا إجابات مقنعة في اللحظات الأولى سوى أنه علينا أن نتراجع إلى الخلف صوب خداروأنتهى ..

لم يكن الأمر سهلآ ولا مقبولآ ولا مفهومآ أبدآ ..وبعد أخذ ورد , أستطاع الرجل أن يقنعنا بالعودة , بعد أن أوضح لنا أن اللجان الإعلامية تم حجزها كاملة في نقطة التفتيش الثانية , وأن الكهرباء ما قطعت عن المنطقة إلا بعد أن قطعوا شبكات الإتصالات يمن موبايل وسبستيل وسبأ فون كذلك, مما يدلل كما قال على أنهم يحيكون ضدكم شئ ما وفي أي مكان من هذه المناطق إن أستمريتم في السيريا أخوتنا كما قال ,وعاد وأكد أن المنطقة القادمة خطرة ولا يستطيع ومجموعته كما أردف توفير أي حماية تذكر حسب قوله,,وكرر طلبه ورجاءه لنا بالعودة إلى خدار لمصلحة المسيرة ولسلامتنا جميعآ ..

هنا بدأنا نجمع شتات مقدمة المسيرة المربكة حينها ولنعود للخلف في مجموعة متصلة خوفآ من أن تكون عودتنا هي أيظآ مصيدة وجزء من مؤامرة ما ..

وعدنا وبحذر شديد لنكتشف أن الأمر غاية في التعقيد وأننا لن نجد لنا من خيار إلا انتظار الإفراج على اللجان المنظمة لنستقي منها معلوماتنا التي على أساسها سنتصرف ..كان الوضع ينذر بشئ ما .., وتوجسآ منا حاولنا عمل عدة أحزمة بشرية من الشباب , حماية لثائراتنا الأبطال الماجدات اللاتي أبين إلا أن يقاسمننا همنا حتى النهاية مهما كانت المخاطر المحدقة ليلتها,صبرنا وانتظرنا وعلى أمل إن تنجلي غمتنا في أي لحظة .. واستمر بنا الحال لأكثر من ساعة تقريبآ حتى بدأت بعض اللجان في الحركة والوصول إلينا خلال هذه المنطقة وبدأنا نسمع أصوات مكبرات الصوت وصدور أولى التعليمات بالعودة إلى الخلف أيظآ , أصوات أشعرتنا بالأمل من جديد فبدأنا نتابع مكبرات الصوت ومن خلالها تعليمات اللجان وهي تفسر بعض ما حدث لها في النقطة من تعسف واحتجاز ,,
وصلت الجموع المدرسة أخيرآ, وخصصت غرفة الإدارة وما جاورها للثائرات, وتزاحم المئات من الشباب على فصول المدرسة في طابقيها العلوي والسفلي , وليترك الجزء الأكبر من الثوار يواجهون مصيرهم في عراء خدار .. ولم يكن حينها بالإمكان أفضل مما كان...... هنا سنبيت إذآ في عراء خدار وما أدراك ما عراء خدار ؟!

مجموعة أخرى دلتهم الفرص السانحة تلك الليلة لمسجد صغيرجدآ وفناءه المفتوح على حافة الطريق الأسفلتي ليلجأوا إليه ويتراصوا جوار بعضهم بشكل لا يمكن له أن يحدث أو يتم تقبله إلا في خدار وطقسها البارد ..

كانت محطة هامة جدآ هي محطة وصولنا لخدارومدرستها وما رافقها من نواحيها المتعددة , لكنها كانت البداية والبداية فقط ولساعات الليل المتبقية حكايات وحكايات ,حيث أن كل ما قد أسرده من تفاصيل ستظل بأي حال من الأحوال لا تفي ولو بجزء يسير من أهوال تلك الليلة ومعاناتها المريرة والمؤلمة والجميلة كذلك في آن واحد..

ليلة لجأنا فيها لإحراق كل ما كان في متناول أيدينا وأنظارنا من حطب أو كراتين وغيرها وحتى إطارات السيارات التي إمتلأت بها خدار ,فلم يجدي ذلك معنا ومع برد خدار نفعآ أبدآ , وكنا ونحن نحاول حماية أجسامنا المنهكة وبطوننا الخاوية من برد خدار الشديد كمن يطلب المستحيل في زمن المستحيل دون جدوى .

ومع ساعات الليل المتأخرة وجدنا أنفسنا قد أتينا على كل ما يمكن أستخدامه لاشعال نيران تعيننا على ليلتنا هذه , وأضحت خدار منطقة تخلو من كل حطبها ونفاياتها الممكن إستخدامها للتدفئة الإظطرارية.. فلم يعد في خدار ليلتها إطار سيارة أو عود حطب أو مخلفات كرتونية تذكر ,,
كادت في خدار أن تتجمد الدماء في عروقنا ,لكننا ما استسلمنا ولا أصابنا اليأس والوهن مطلقآ ,جعنا كثيرآ وتمنينا قطعة خبز مع حلول ساعات الفجر ,وبعد استنفاذ كل ما كان له أن يسد رمقنا من زاد قليل هنا أو هناك.. لكننا كنا كذلك أقوياء إرادات كما لم نكن مثلها يومآ من أيام أعمارنا , قاسينا ألم البرد والخيانة لكننا كنا شعلآ من الفعل الثوري المتجدد وأمل بغير حدود...

فلم ولن أنسى صيحات الشباب الهادرة وهي تشق عنان سماء خدار في تحد يزلزل الجبال وهم يهتفون : مبردناش مبردناش الحرية مش ببلاش .

وهتافهم الجميل الآخر : والله ورب الكون ما نرجع حتى تعودي يا يمن حرة .

نلتقيكم غدآ مع الجزء الثالث والأخير من مسيرة الحياة في ذكراها الأولى ولنبدأ أيظآ من أولى لحظات إنبلاج فجر خدارولنتم حكايتنا إنشاء الله في العاصمة صنعاء ولحظات الوصول التاريخية للمسيرة وروادها الشجعان الابطال.
السلام عليكم ..