الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٣:١٦ مساءً

شتاء عربي بارد.. بلا أوطان وبلا جيوش

محمد عارف
السبت ، ١٩ مايو ٢٠١٢ الساعة ٠١:٤٠ مساءً
الولايات المتحدة الأميركية لا تضيع وقتها؛ فانتهاء الحرب الباردة وتفكك المعسكر الشرقي لم يكن يعني لها نهاية الحرب وإنما بداية مرحلة حديدة منها لاستكمال السيطرة على العالم، والتقريران اللذان قدما إلى البنتاغون 1992 لـ"بولولفووتيز" والأميرال "جيرميا كان" كانا واضحين تماماً فيما يخص بسط هيمنة الولايات المتحدة على كامل الكرة الأرضية بشتي الوسائل.

بعد انتهاء الحرب الباردة صار من الواضح أن الولايات المتحدة ليست مستعدة للتنازل عن وصايتها لأحد، وبدلاً من تفكيك الحلف الأطلسي عمدت إلى توسيع منطقة عمله وتوسيع صلاحياته وتعزيز امتداده الجغرافي والاستراتيجي والهيكلي وتجديد بناه العسكرية والتخطيط لإنشاء قوة ردع سريعة.

وفي هذا العام تم إنشاء وكالة جديدة للاستخبارات العسكرية الأميركية باسم "خدمة الدفاع السرية" كما أن هناك مساعي حثيثة لعولمة الحلف ليشمل أوروبا الشرقية وشرق آسيا وجنوبها وأستراليا والشرق الأوسط وأميركا الوسطي والجنوبية وتوسيع مضلة الحلف ونطاق مهامه العسكرية ليشمل جميع هذه المناطق وهذا ما فهمه الكثير بعد المؤتمرين الأخيرين اللذين عقدهما الحلف هذا العام إذ حضرهما قادة عسكريون من 67 دولة أي ما يقارب ثلث دول العالم.

حروب أميركا السابقة تحت مسمى الحرب الباردة لا زالت مستمرة ولكن بدون اسم هذه المرة، يمكن اعتبارها "حروب العولمة" ـ ليست الحرب على الإرهاب سوى جزء منها ـ والعولمة سياسياً تعني ضم العالم إلى اميركا، وتحويل العالم إلى قرية صغيرة يحكمها عمدة وهذا العمدة ليس سوى أميركا في نظام شبه فيدرالي هو إمتداد للفيدرالية الأميركية تتضخم فيه عدد الولايات لتصبح بنفس عدد دول العالم تقريباً.

الفارق أن العالم سوف تحكمه أميركا وتستنزف موارده دون أن يحصل أفراده على أي من الحقوق التي يتمتع بها الإنسان الأميركي، وهذا ما يحول العولمة إلى حرب استعمارية ككل حروب الغرب الاستعمارية السابقة، ومثلما تسيطر الحكومة المركزية الأميركية على الاقتصاد والدفاع والعلاقات الدولية الخارجية فإن أميركا في النظام العالمي الجديد ستكون بمثابة الحكومة المركزية وتسيطر على نفس هذه المجالات، وقد حققت بالفعل الكثير في هذا الصدد.

فهي الآن من يدير العلاقات الدولية العالمية وتدير الاقتصاد العالمي من خلال صندوق النقد الدولي وبريتون وورد "نظام النقد العالمي" والبنك الدولي وخطة مارشال والعديد من الاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية التجارة العالمية "الجات".

كما أنها تدأب على فرض هيمنتها العسكرية على العالم بفعل تفتيت الجيوش الضعيفة واحتواء الجيوش القوية واختراقها عن طريق المعاهدات والتسليح والتدريب والتمويل ـ ربما كخطوة مرحلية ـ مع ملاحظة أن الجيش المدمر لا يسمح بإعادة بنائه.

خرجت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية بجيوش مدمرة بعكس الولايات المتحدة الأميركية التي لم تتأثر كثيراً بفضل بعدها عن الساحة الرئيسية للحرب (أوروبا) وقد أعيد إعمار أوروبا وتأهيل اقتصادها والسيطرة عليه من خلال تلك المؤسسات المالية الأميركية، لكنها لم تتمكن من إعادة بناء جيوشها المستقلة عن الهيمنة الأميركية.

فعقب إنشاء حلف الناتو استطاعت أميركا أن تفرض الحلف كبديل للجيوش الأوربية، ليصبح قوة عسكرية مكونة من جميع الدول الأعضاء يهدف في مواده الأساسية إلى حراسة حرية الدول الأعضاء وحمايتها، وبمرور الوقت تعززت سيطرة أميركا عليه برغم المعارضة الديغولية المريرة والطويلة والتي كان من أبرزها محاولة إنشاء مجلس الدفاع الأوروبي المستقل عن أميركا إلا أنه فشل بسبب خيانة الديغوليين ووقوف أميركا ضد اي مشروع من هذا القبيل لتنتهي كل التوازنات لصالح الطروحات الأميركية وتجد هيئات الأركان والجيوش الأوربية نفسها سجينة شبكة من هيئات أركان دولية رؤوسها الأساسية أميركيون، وصارت كل الأوامر المعتمدة في الحلف منبعها البنتاغون.

احتلال أميركا لليابان ترك أراضيها مقسمة وترك اليابان مكبلة إلى معاهدات حماية مع أميركا وتواجد عسكري أميركي مستمر، مع مادة دستورية تقضي بعدم إعادة بناء الجيش الياباني أبداً، حتى وإن وافقت أميركا!

بعد انتهاء الحرب الباردة وضع "فوكوياما" إصبعه مبكراً على ميدان المعركة المقبل ضمن مقالته الشهيرة "نهاية التاريخ" 1989: قال "إن للإسلام حدوداً دامية" خاصة وأن العالم الإسلامي كان قد ظهر في أواخر الحرب الباردة كتحد للتوسع الأطلسي متمثلاً في الصراع العربي الإسرائيلي وإيران والعراق والحركات الإسلامية المتشددة، وكان احتلال الكويت وتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر أبرز مظاهرها، وكانت المنطقة قد بقيت طوال الحرب الباردة منطقة ممانعة بين المعسكرين المتصارعين تعيش على تناقضاتهما قدراً لا بأس به من الاستقلالية لكنها وجدت نفسها فجأة وجها لوجه مع عملاق منتصر أبهجه كثيراً انتصاره الأخير.

وبنفس المنطق فإن الاحتلال الأميركي ترك العراق بلداً طائفياً ممزقاً..ولاءات أبنائه تدين لجهات خارجية متصارعة وذلك كضمانة لديمومة حالة "اللا إستقرار" أما الجيش العراقي فتعرض بعد هزيمته وحتى بعد قرار حلّه إلى تدمير ممنهج واستنزاف بشري ومعنوي ومادي على شكل محاكمات سياسية وتهم كيدية واعتقالات وتعذيب وتصفيات جسدية وتهجير منظم واستيلاء على الممتلكات، وأصبح العراق يعج بعشرات الجماعات والمليشيات المسلحة التي فرضت نفسها بديلاً للجيش وفرضت سيطرتها على الأرض بطرق دموية بشعة.

في عام 2006 أثناء حرب إسرائيل على لبنان قالت كوندليزا رايس "إننا نشهد مخاض ولادة شرق أوسط جديد وما نشاهده من حرب إسرائيلية في لبنان وفلسطين إنما هي دواعي هذه الولادة".

المثير للتساؤل هو لماذا ولادة الشرق الأوسط الجديد في لبنان بالذات؟ هل لأن لبنان هو البلد العربي الأول الذي ولدت فيه استراتيجية "لا استقرار ولا أوطان ولا جيوش"؟

في الحرب الأهلية اللبنانية تمزق الجيش اللبناني سريعاً 1982 وتحول إلى ألوية طائفية تتقاتل فيما بينها حتى انتهى وخلف ميليشيات مسلحة تقسم لبنان على الأرض وتدين بالولاء لجهات خارجية إقليمية متصارعة، الحرب في 2006 كرست هذا الواقع المقسم وأظهرته على أنه الحل الأمثل للعجز العربي، لقد تركتنا نشعر بأننا انتصرنا من خلال ميليشيا حزب الله، وأن الميليشيات يمكنها أن تنجح فيما فشلت فيه الجيوش العربية وأنها الطريقة الصحيحة لانتصار العرب واستعادة القدس، كانت الاحتفالات بالنصر مبالغاً فيها بصورة تدعو للحيرة والتفكير، تحدث حسن نصر الله خلالها قائلاً: إن مقاتلي حزب الله سطروا نصراً تاريخياً ليس للبنان فقط بل لكل الأمة الإسلامية، على أقوى جيش في الشرق الأوسط وأقوى سلاح طيران، ثم قال "إنه لن يدخل في جدل نزع سلاح الحزب وأن طرحه في هذا الوقت لا يخدم إلا العدو".

متحدث إسرائيلي علق على هذه الاحتفالات بالقول "دعهم يغنون ما شاءوا..إسرائيل حققت معظم أهدافها من العملية".

لا بد أن إسرائيل كانت سعيدة بوجود ميليشيا مسلحة على الطرف الآخر من حدودها مع لبنان بدلاً من وجود جيش منظم، ولا بد أنها ستكون قريرة العين أكثر لو تم تدمير الجيش السوري واستبداله بميليشيات من الإخوان المسلمين على الحدود السورية معها، فهي في الواقع تمتلك الخبرة والتقنية الكافية لإدارة حروب سهلة مع هذه الميليشيات، في الحقيقة ليست حروبا وإنما هي أشبه بلعبة القط والفأر إذا ما قورنت مثلاً بآخر حرب خاضتها إسرائيل مع جيش عربي في 1972، ففي بضعة أيام قتل آلاف الجنود الإسرائيلين ودمرت معظم دباباته وآلياته وكان من الممكن أن تتعثر إسرائيل وتقع في البحر الميت لولا دخول أميركا الحرب.

بقيت المنطقة العربية خلال العشر السنوات الأخيرة محكومة بتوازن استراتيجي جامد فشلت القوى الكبرى وتحديدا الولايات المتحدة في تغييره، لكن هذا التوازن اهتزت دعائمه فجأة في تونس ثم مصر وليبيا واليمن وسوريا فيما عرف بثورات الربيع العربي.

لقد كانت الاستراتيجيات الأميركية للمنطقة أشبه برمال متحركة، وكل حركة منا تجعلنا نغوص فيها أكثر بحسب حجم تلك الحركة، وقد كانت ثورات الربيع العربي حركة ضخمة ابتلعت أو توشك أن تبتلع المنطقة.

فنتائج الثورة في ليبيا هي نفس نتائج الاحتلال الأميركي للعراق لكن بدون أية خسائر أميركية أصبحت ليبيا مقسمة في الواقع، تسيطر على الأرض ميليشيات قبلية ولاءاتها لا تتجاوز حدود القبيلة إلا إلى الخارج الروحي البعيد، مع دولة شكلية وجيش مدمر تماماً، في تونس ومصر كانت المؤسسات العسكرية أكثر تماسكاً ربما لأنها أصلاً مخترقة من قبل عبر معاهدات ومساعدات واتفاقيات استراتيجية مع أميركا والأطلسي، لكن الثورة جلبت لها بلا شك المزيد من هذه المعاهدات والترتيبات التي من خلالها ستحكم أميركا سيطرتها عليها أكثر، في الوقت الذي لن تهدأ محاولات الثوار لاختراق الجيش والسيطرة عليه.

أما في اليمن فنرى مرحلة متقدمة من نفس التكتيك؛ إذ توشك البلاد على أن تسيطر عليها ميليشيات مسلحة ـ بدلا عن الجيش ـ تقسمها فعلياً إلى وحدات أصغر يختفي عند أبنائها معني الوطن وولاآتها لجهات خارجية متصارعة.

ويواجه الجيش اليمني هجوماً مزدوجاً: اختراقه عبر المعاهدات والاتفاقيات الدولية وحرباً شرسة ومفتوحة مع ميليشيات وجماعات مسلحة إسلامية في معظمها.

ويخوض الجيش معاركه منذ عام 2004 والبداية كانت مع جماعة الحوثيين إلا أن العد التنازلي للتدمير الذاتي للجيش لم يبدأ إلا في العام 2006 عندما تحولت الحرب مع الحوثيين إلى ما يشبه حرب استنزاف بين فصائل وألوية الجيش المختلفة.

لكن أشرس المعارك وأشملها وأكثرها إتساعاً خاضها الجيش المنهك العام الماضي أثناء الثورة ولازالت مستمرة في شتى المناطق ضد ميلشيات إسلامية وقبلية وطائفية، تهدف إلى السيطرة على مناطقها والاستيلاء على المواقع العسكرية، وقد تحقق لها ذلك في عدة محافظات هزم فيها الجيش ونهبت آلياته.

رحيل النظام السابق لم يضع نهاية للحرب على الجيش بل استمرت بنفس الوتيرة من القوة؛ فبدت كثورة على الجيش أكثر منها ثورة على النظام، إضافة إلى عمليات التدمير والاستيلاء على المعدات والنهب المنظم الذي طال حتى آليات وأجهزة الدفاع الجوي، فإن أقوى الضربات كانت بسبب الخيانات الكثيرة من قيادات الجيش المتوسطة وصولاً إلى أرفع القيادات يتم فيها بيع مواقع بكامل عتادها إلى هذه الميليشيات، وقد تبيع من العدو انتصارات يذهب ضحيتها عشرات الجنود.

ليس مهماً كيف؟ ومهما تابعنا قناة الجزيرة فلن نعرف، الأهم أننا نجد أنفسنا شيئاً فشيئاً نتخذ الوضع المثالي الذي تتمناه أميركا: تبلعنا دون مضغ؛ إستراتيجية أميركا العتيدة: لا جيوش لا استقرار ولا أوطان.