الجمعة ، ١٩ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٨:٥٦ مساءً

مابين صنعاء ومأرب

راشد القاعدي
الثلاثاء ، ١٦ مايو ٢٠١٧ الساعة ١٠:٤٧ مساءً
لا زلت طفلا حينها .. عندما كنت أخلد إلى النوم في قريتنا التي تأتزر الكبرياء وأسمع أصواتا غريبة من خارج منزلنا فيشتُّ النوم وأتشبث بوالدتي التي تقول لي أنه أنين مظلوم في المقبرة المجاورة ..

كنت أستغرب قولها خصوصا عندما تضيف أن المقتولين ظلما يئنون من قبورهم طوال الليل حتى يسمع الأحياء أنينهم الذي لا ينقطع إلى يوم الحساب ..

تذكرت هذا جيدا وبدت الصورة واضحة بعد سنوات عندما كنت أطل من شرفتي بعد منتصف الليل على البيوت الجاثمات في صنعاء وكأنها مقبرة للمظلومين ..
أسمع أنينا لا يقال ..
وأحس بالمظلومين وأتوجس من الظالمين في آن ..

لكثرة ما لحق بالناس من أذى واختطاف وتعذيب وتقتيل وابتزاز على يد الحوثيين ، كنت أخاف من كل شيئ في صنعاء حتى من نفسي وأصدقائي وأصهاري وأقاربي واخوتي استحالت كل الأشياء فيها أشباحا إلى درجة كنت أرى المخبرين في الرصيف والجدران والأبواب حتى في مرحاض الحمام ..
وكنت أرى الحوثيين يطاردونني حتى في منامي فأنهض راكضا في أرجاء الغرفة فلا أستيقظ إلا من صراخ زوجتي التي لا تسلم من رفسها برجلي في أول نطة عند فراري من الحوثيين في الأحلام والمنام ..!!!

لقد تعبت من وضع الأستعداد الذي كنته في صنعاء ..
كل يوم أعتلي سطح البيت الذي أستأجر شقة منه لقياس مدى استعدادي للقفز إلى سطح العمارة المجاورة إذا ما جاء المعتوهون لاختطافي ..
كل يوم أبتكر حيلة للتخلص من قبضتهم إذا ما جاؤوني لإحكامها ..

أنا مجنون حقا أشعر بالكرامة تحت سلطة انقلابية غير كريمة ..
***
نعم .. كنت أخاف حتى من أقاربي ..
فهذا أخي عبدالسلام الطفل الذي لم يستوفي الـ 13 ربيعا من عمره إلا مقتولا مع الحوثيين ..
زارني إلى صنعاء وأهداني رصاصة كبيرة تبدو لرشاش ثقيل ملصق عليها شعار " الموت لأمريكا "

حاولت أن أرد على ابتسامته بابتسامة مصطنعة أجهدت نفسي في صناعتها بينما كان الأنين يمتد داخلي إلى مالا نهاية .. وكأن بين ضلوعي أكبر مقبرة للمظلومين ..

وعدته بشراء كسوة له بدلا عن ملابسه التي تنسدل الخيوط من أطرافها بسبب تمزقها لكثرة استعمالها ..
لم أفي بوعدي كوني عاطلا بسبب اقتحام المليشيات لمقر قناة يمن شباب التي كنت موظفا فيها ..
لكني سأفي بوصول قصته إلى آخر جيل على وجه الأرض ..

حقيقة .. لم أستطع استنكار ما أقدم عليه وإرشاده تلك اللحظة التي أهداني فيها الرصاصة - فعلت ذلك لاحقا - ..
كانت شفقتي عليه أكبر وهو بوجه شاحب وعينين غائرتين بين صدغيه .. لقد رأيت في وجهه الصومال الذي توعدنا به علي صالح ..
كانت لا تفصله عن الموت إلا كلمة عتاب ينقهر منها فيلفظ أنفاسه الأخيرة التي لفظها بعد أشهر من ذلك الموقف ، مع الحوثيين الذين أسلموه للموت مع مجموعة من الأطفال في الجبهات ..
هذا الطفل عبدالسلام وليس عبدالحرب أيتها المليشيات المسعورة ..
وهذا هو الطفل في أماكن سيطرة المليشيات ..
بينما الأطفال هنا في مأرب تكتض بهم المدارس والرياض والحدائق كلؤلؤ منثور ..

من يروي للعالم هذا الفرق .. ؟!!

****
لم أكن الوحيد الذي يفتك به الخوف في مناطق احتلال المليشيات كوني صحفي .. فالجميع هناك مدانون .. إنهم عرضة للإختطاف والإبتزاز في أي لحظة ، أصحاب المحلات ، والأطباء ،والطلاب والمدرسون ..
نعم ، حتى المدرسين الذين يدرّسون مكرهين بلا رواتب فقد مات قبل أيام المسؤول التربوي .. جرّاء التعذيب في سجون الحوثيين بينما كانت مأرب تشهد حفلا خطابيا لتكريم المعلمين فيها ..
***
بعد الإرهاق الذي أصابني في مدينة تحتلها الأشباح ..

غامرت مسافرا إلى مأرب وهل السفر إليها إلا مغامرة كاجتياز السراط المستقيم ،تقف على جوانبه الكلاب ويعبر الناس فمنهم من يسقط في منتصفه ومنهم من تأكل الكلاب بعض أعضائه ومنهم .. الخ
إلى هنا ، وعلى شيخنا إكمال الحديث ..

أما أنا فكنت كلما تجاوزت نقطة تفتيش حوثية أستعجل عجلات السيارة التي أستقلها متلفتا إلى النقطة خلفنا خشية أن يشعروا بخيط نور أفلت من بين أيديهم فيستدركونا لإلقاء القبض عليه وإطفائه بحبسه ..
هنا بالضبط عادت بي ذاكرتي إلى أيام طفولتي حين كنت في ظلام الليل المعتم كتأريخ الإمامة أعود بعد مشاهدة مسلسل " العوسج " وكنت ألتهم المسافات كالرياح متلفتا إلى الوراء خشية أن تبطش بي يد ذلك الغول الذي كان جدي يحدثنا أنا وصديقي صلاح وبعض غلمان القرية عن بطشه بالأطفال والأيتام ..

حتى إذا ما وصلت باب البيت أنط نطة قوية كسهم فارق قوسه متجاوزا الباب ضاربا بمصراعيه على بعضهما خشية أن يبطش بي ذلك الغول في اللحظة الأخيرة…
هكذا كان شعوري عند تجاوزي آخر نقطة حوثية ودخولي تحت ظلال الشرعية في مأرب ..

وصلت مأرب التي تحتضن عشرات الصحفيين .. ولكن بجناح مكسور تمكن الغول الحوثي من إهاضته باختطاف الصحفي صلاح القاعدي و 17 صحفيا آخرا تفتك بهم كوليراء سجون الحوثي في صنعاء ..
مأرب الصغيرة تتسع لـعشرات الصحفيين ، بينما صنعاء الكبيرة ضاقت بـ 21 صحفيا حتى خنقتهم في لحود تدعى زنازين ..
لا بأس يا زمن ..
أن مأرب الصغيرة كبرت مؤخرا إلى درجة أن أحد المواطنين يتقاضى فيها محافظ المحافظة فيحضر الأخير أمام المحكمة ممتثلا لحكمها في صورة لم تعهدها بلادنا .. بينما تتقزم صنعاء الكبيرة إلى درجة أن أحد مراهقي مليشيات الحوثي يصفع ضابطا وسط قسم للشرطة بينما لا يملك الأخير إلا أن يصيح وساقاه بالكاد تحملانه لشدة انتفاضهما " احترمني .. أنا ميري " فيأتيه الصدى من الحوثي " على غيري "
***
وصلت مأرب بحثا عن صنعاء التي فقدتها في صنعاء ووجدتها في مأرب ..
فتعبيد الشوارع وسفلتتها وتلميعها لا يتوقف حتى تبدو صرحا يغريك بالنوم عليه .. لا تلك الشوارع التي تركتها ورائي في صنعاء جعلها الحوثيون مقلبا للنفايات ..
وكأن شوارع مدينة الجمال تحتمل تراكم النفايات وتواجد الحوثيين في آن ..
ماهذا البلاء المضاعف يا الله ..
وما سبب هذا الفرق الشاسع الذي جعل صنعاء دون صحراء مأرب إن لم تكن جرائم الحوثيين ..

رغم أن هذا ليس جل ما بين صنعاء ومارب ..

إذ أن بينهما أيضا جغرافيا واسعة قد اجتازها الجيش الوطني والمقاومة إلى صنعاء ..

.. بينما لا يزال إعلام الإنقلاب يتحدث عن معارك مع الشرعية بين صنعاء ومأرب إيهاما لفلوله أن صنعاء بعيدة ..
بينما الجيش الوطني أقرب إليها من حبل الوريد ..

صنعاء قريبة ..

والفرق عظيم بين النور والظلام وبين الجمهورية والإمامة ..