وقعت ظروف اضطرارية حائلاً بيني وبين تلبية دعوة كريمة من الحكومة الموريتانية، لحضور انعقاد القمة العربية في نواكشوط، وأتخيل، الآن، في ظل هذه "الهلوسة القومية" التي أصابت دوائر نظام السيسي، احتفالا بمحاولة الاغتيال الوهمية، أنني كنت في موريتانيا.
لا بد أن صحافة السيسي لم تكن لتفوّت هذه الفرصة لتضع كاتب هذه السطور في واحد من السيناريوهات الكوميدية لعملية الاغتيال، ولم لا وهم في ظل السباق المحموم للنشر، لا يخجلون من الاستعانة بنكات وأساطير وأوهام، متناثرة على مواقع السوشيال ميديا، حتى أن بعضهم ينقل عن صفحات إسرائيلية مزيّفة، وبكل فخر.
"نعتبر مصر أهم حليف استراتيجي لإسرائيل في الشرق الأوسط، بل أكثر حلفائنا جديّةً والتزاماً بأمننا ومصالحنا، بالمقارنة مع كافة الدول العربية"
هكذا نقلت صحافة عبد الفتاح السيسي بسعادةٍ بالغة، عن وزير الحرب الصهيوني أفيغدور ليبرمان، وهي تحتفل بمحاولة اغتيال الجنرال، وتتنافس في صناعة السيناريوهات الحريفة، وهي تخرج لسانها لإغاظة الخصوم"عندنا اغتيال وأنتم لا".
ولا تكتفي بهذا القدر من خطاب ليبرمان الغرامي، فتزيد صحيفة "الفجر" لصاحبها عادل حمودة: وأضاف ليبرمان، في خطابٍ أمام الكنيست، نشر على صفحةٍ مزعومةٍ باسمه على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، "إنني قد استثمرت بنفسي الكثير من الجهود الفعالة لبناء الثقة وعلاقات تعاون استراتيجية مع الحكومة المصرية على المدى الطويل، ومع الرئيس عبدالفتاح السيسي شخصياً"، مفجرّاً مفاجأة بقوله: "إنني نصحته أمس بإلغاء الزيارة إلى موريتانيا، والاعتذار عن حضور القمة العربية لأسباب أمنية".
وتزيد الصحيفة أن وزير الحرب الصهيوني قال: "دولة صغيرة كموريتانيا لن تستطيع حماية رئيس بحجم السيسي، يواجه أعداءنا من المتطرّفين الإسلاميين في مصر ودول أخرى، وكذلك لأن القمة ستستغلها بعض أنصاف الدول إلى منصةٍ لمعاداة إسرائيل بالمزايدات الكلامية الرخيصة".
تبحث عن أي أصل لهذا الخبر في صحافة العرب والعجم، فلا تجد، ما يجعله نوعاً من أنواع صحافة الهلاوس، يندرج في باب "المزاح الإلكتروني"، وبالتالي فالشيء المروع هنا هو هذه البهجة الإعلامية السيسية بكل ما يأتي من الكيان الصهيوني، ولو على سبيل التنكيت، حاملاً إشادة ورعاية وحفاوة إسرائيلية بالجنرال.
والأرجح أن الصحيفة وجدت نفسها في موقف المتفرّج على المزاد المفتوح للاحتفال بأن الزعيم حصل على محاولة اغتيال، وليس من اللائق ألا تشارك في هذه الأفراح القومية، المنصوبة على صفحات الجرائد وفوق الشاشات، فأرادت أن تساهم برقصةٍ، أو غنوةٍ، حتى ولو مبتذلة.
يدهشك في محاولة الاغتيال المزعومة أن المتحدث باسم الرئاسة السيسية أصدر تصريحاً نفي به الواقعة. ومع ذلك، واصلت الصحف النشر، في تنافسٍ مثير على جائزة أفضل سيناريو، من دون أن يخرج النائب العام بقرار حظر نشر، أو مساءلة الذين ينشرون، أو يتصل "عباس" بالأذرع، كي تتوقف عن أصابعها عن الحركات والإشارات.
ليس هذا انفلاتاً إعلاميا، بالطبع، فكل يتحرك ويتكلم بمقدار محدّد سلفاً، ولو لم يكن نظام السيسي راغباً في النشر عن "ملحمة الاغتيال الوهمية" بكثافة وتوسّع، لما أقدمت وسائل الإعلام على النشر، وأصرّت عليه، بعد نفي المتحدث الرئاسي.
ولعلك تذكر أنه، في زمن حسني مبارك الذي هو السيسي بعد عملية تجميل، كما قال الصهاينة، كان خبر صغير عن محاولة استهداف موكب "الزعيم" كفيلاً بإغلاق صحف وتهدم مؤسسات، وتشريد رؤساء تحرير، وتقطيع أيدي وأرجل صحافيين من خلاف، إلا إذا كانت أجهزة النظام راغبةً في النشر، والإيعاز بما تشاء من رسائل إلى الداخل والخارج.
ويلفت النظر في مسلسل محاولة اغتيال السيسي أن أياً من المصادر الرسمية لم يظهر في الصورة، فكل السيناريوهات منسوبةٌ لمصادر مجهولة، أو رفضت الكشف عن هويتها، فلا أمن قومي أدلى ببيان، ولا أمن وطني أصدر تصريحاتٍ، وكأن المقصود أن تتحوّل المسألة إلى ما يشبه "ورشة السيناريو"، أو مباراة مفتوحة في التأليف، ليصبح الهدف، في النهاية، الإعلان عن أن "الزعيم" مهم ومؤثر وشاغل الدنيا، وبالضرورة مستهدف. وبالتالي، لا تثريب عليه، وأجهزته، في موجة إجراءات انتقامية، في إطار شحن بطاريات الاستبداد والقمع، في الداخل، ومواصلة لعبة الابتزاز، على الخارج، هذا الخارج العربي، الوغد الذي تجاهل بضاعة الجنرال لتحقيق السلام الدافئ، ورحّب بالمبادرة الفرنسية في قمة نواكشوط.
وفي أجواء مثل هذه، يبدع مثقفو السلطة في الطبل والزمر والرقص والطلب، وتفتح أبواب القصر للمهنئين بالنجاة، والمطالبين بمزيد من الاستبداد والدكتاتورية، في حب الوطن، وحماية لزعامته المقدسة، من كيد الكائدين وحقد الأعداء المتربصين.
بقي أن نعتذر لموريتانيا، العزيزة، واحة الشعر والثقافة، عمّا طالها وطال شعبها من سفاهات شوفينية بذيئة، في غمرة الاحتفال بالاغتيال الكاذب للجنرال.
مشاركة