الآن، وبعد أن انتصر محمد مرسي، من محبسه، على كل الكذّابين المتخرصين المرجفين، وثبت أن كل ما لفقوا له من جرائم، لم يرتكبها، عادوا ونفذوها هم، مع سبق الإصرار والترصد.. أليس من واجبك أن تمتثل لنداء المرايا، وتقف أمام ضميرك، تراجع كل ما ردّدته، ولكته وهتفت به، كأنك واقع تحت تأثير مخدر فتاك؟
هل تمنح نفسك فرصة أن تتعامل معها باعتبارها نفساً بشرية، لا رأس فأر تجارب، وتسألها: من باع أرض سيناء للفلسطينيين، ومن باع النيل والأهرامات لقطر، ومن مدّ يديه صاغراً ذليلا، فلم يعد مؤهلاً لأن يمد قدميه في المكان الذي يريد، والوقت الذي يريد، وتحول إلى دمية، أو لعبة أطفال ناطقة، بما يريده اللاعبون؟
مازلت أذكر ذلك المشهد في القاعة الكبرى، المخصّصة للجلسة الافتتاحية للقمة العربية في الدوحة، الوحيدة التي شارك فيه رئيس جمهورية مصر العربية، المنتخب بعد ثورة شعبية، الدكتور محمد مرسي، حين ألقى كلمة اهتزت لها جنبات القاعة، إذ دوّى صوته غاضباً، محذراً من الأصابع الصغيرة، الممدودة للعبث بمصر.
كان ذلك في مارس/ آذار 2013، في ذروة اشتعال الثورة المضادة، المدعومة من القوى الإقليمية الكارهة للتغيير، تخطيطاً وتمويلاً وإدارة، ورأيت القرار، قرار التعجيل بالانقلاب عليه، مطبوعاً على الوجوه الصفراء، داخل القاعة، فامتعض وجه بعضهم، وغادر آخرون.
قرّروا الإسراع بالتخلص من هذا الذي يريد أن يحرّر مصر من "سجن شرم الشيخ"، مصر الفندق والشاليه والكباريه، مصر التي أعادوها "قريبة ورخيصة" فيما بعد، تبيع الأرض، وتؤجر السيادة بالساعة، وكان التنفيذ في الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013، وتكالب اللاعبون بأصابع اليدين والقدمين على الفريسة، بكل نوازع الانتقام ورغبات الإهانة والإيذاء، فهيمنوا على القرار، وسيطروا على الرأس بالتحكم في المعدة المسعورة، الشرهة لكل أنواع الطعام الحرام.
أعادوها مكسورة العين، خربة الوجدان والبنيان، حتى بلغت روحها حلقوم الانهيار الشامل، تلك اللحظة النموذجية لتفعيل المثل الشعبي البليغ "إن خرب بيت أبيك خذ لك منه قالب"، ليسرع الشطار إلى الفوز بما علت قيمته ورخص ثمنه، كل يقضم قطعة، قبل السقوط التام.
ليس بعيداً عن الحقيقة القول إن قرار التخلص من محمد مرسي تم اتخاذه قبل أن يفكّر محمد مرسي نفسه في الترشح للرئاسة، إذ بدأ التفكير في إحراق الإسلام السياسي غير المتناغم، على نحو كامل، مع معادلات الشرق الأوسط التقليدية، عقب صعوده اللافت مع ثورات الربيع العربي.
في ذلك الوقت، توافق اللاعبون الدوليون الكبار، وصغارهم الإقليميون، على أن أفضل طريقة لحرق هذا التيار وضعه في أفران السلطة، ثم إغلاق كل النوافذ والأبواب عليه، حتى يشتعل ويتفحم. كان السيناريو: دعوهم يصلون إلى السلطة، عبر طريق ديمقراطي سليم، ثم احبسوهم داخلها، ولفوا حبال الفشل على رقابهم، ثم أحكموا الخناق، حتى تزهق روحهم.
وهذا ما حدث، إذ حضر الإقليميون إلى ساحة المعركة، مدجّجين بالنفوذ والمال والرغبة في الإيذاء والانتقام، وموّلوا كل مشاريع الخراب والانهيار، بالدولار والسولار، وأداروا كل شيء، عبر رجالهم المطيعين، من الإعلام إلى رغيف الخبز وأسطوانة البوتاغاز، وأطل أحمد شفيق بوجهه، وتبادل عبارات الغزل مع محمد البرادعي الذي كان يعتبره، قبل أسابيع من هذا المشهد المثير، عدواً لمصر، وجاهلاً بها وبحكمه.
نعم، كانت الخطة "دعوه يحكم، ودعونا نعمل لإفشاله"، وقد تم التنفيذ ببراعة، تليق بالدهاء الشرير لكبار العالم، والإمكانات المادية الهائلة لتوابعهم في المنطقة، ونجحت خطة سجن محمد مرسي داخل أسوار رئاسته، فبدت فترة حكمه كأنها مرحلة حبس احتياطي، تمهيداً لسجنه، ونفيه من الحياة السياسية تماما، وما تراه الآن هو مرحلة الحصاد، أو جمع الغنائم لفيلق العائدين المنتصرين على الربيع.
أصوات قليلة، تعد على أصابع اليدين، كانت قد رأت ملامح السيناريو الشرّير مبكراً، وحذّرت: احترسوا من الفخ.. لا تذهبوا إلى محرقة الرئاسة بأرجلكم، غير أن هذا الاختيار المستحيل بدا حتمياً، وقتها، عندما وجه محمد البرادعي صفعة قاسية للثورة المصرية.
والآن، يطل شفيق بوجهه مجدداً.. كيف ولماذا؟
موضوع نستكمله لاحقاً.
"العربي الجديد"