قال عبد الفتاح السيسي، أمس، إن علاقات مصر الخارجية على ما يرام، وأنهم تفهّموا أن ما فعله ليس انقلاباً، ثم امتقع وجهه وارتعدت فرائصه، وزمجر فجأة قائلاً "اللي يقرّب من مصر هشيله من على وش الأرض".
الجزء الأول من هذه الهلوسة غير المسبوقة، في كوميديا خطابات السيسي، يقطع بأن لا تهديد خارجياً على مصر. وعليه، يصبح الداخل، أو جهات في الداخل، المستهدف من باقي الجملة التي أظهرت حجم التصدعات الرهيبة في سيكولوجية الشخص الذي يعتبر مصر من أملاكه الشخصية التي لن يسمح لأحد بالاقتراب منها.
كان يتحدث عن التنمية المستدامة، وتصوّر "مصر 2030"، فجاء الخطاب منقولا، بتصرف ركيك، من أرشيف معمر القذافي، معبّراً عن حالة من فقدان الاتزان، وغياب الوعي، والتغييب الكامل لمفهوم الدولة، لتجد أمامك شخصاً مشوّش الفكر، زائغ البصر، يشعر بالخطر، من اقتراب سقوطه، فراح يحدّث الشعب باعتباره مجموعة من البلهاء، هو وحده الذي يحميهم، ويعرف مصلحتهم، ومن ثم لا يجب أن يستمعوا لأحد غيره.
"اللي هيقرّب من مصر هشيله من على وش الأرض". مصر، هنا، هي الغنيمة التي اختطفها، ويريدها لنفسه فقط، بلا منازع. يضع السكين على رقبتها، ويحتضنها مذعوراً، مهدداً من يقترب بذبحها، تماماً كما في المشهد الميلودرامي المثير الذي جسّده العبقري يوسف شاهين، في فيلم "باب الحديد".
يعرف عبد الفتاح السيسي أن أحداً في الخارج لا يهدّد مصر بالغزو والاجتياح، ويمتلك علاقات تصل في حميميتها حد الخطيئة، مع العدو الوحيد لمصر والمصريين، حتى أن مضمون خطابه عن مصر لا يختلف عن خطاب رئيس الكيان الصهيوني عنها، إذ لا فروق تذكر بين أن يقول السيسي إنه أنقذ مصر من مؤامرة "الدولة خلال السنوات الأخيرة مهددة تهديداً حقيقياً وما زالت" وأن يقول رئيس إسرائيل، رؤوفين ريفيلين، إن "السيسي حمى مصر من الأصولية، وحال دون تحوّلها إلى دولة شريعة".
إذن، من أين ينبع الخطر الذي يستشعره السيسي على نفسه، ويجعله يصرخ بكل هذه الهيستيريا، عارضاً نفسه للبيع من أجل مصر، أو كما قال بنص العبارة "والله العظيم لو ينفع انباع انباع"؟
يدرك السيسي، بحس رجل المخابرات، أن الخطر على بُعد خطوة، من الداخل، وإن كان محكوماً باعتبارات الخارج. ومن المهم، هنا، أن تراجع العبارات المتطايرة في فضاء ما عرفت بحرب الكلاب المسعورة التي تنهش بعضها بعضا، في قافلة عبد الفتاح السيسي التي تغوص في أوحال الفشل، وأن تتوقف عند هذه الجرأة في المطالبة بانتخابات مبكرة التي تجري على ألسنةٍ، كانت تعتبر الأكثر شراسة في الدفاع عن قداسة السلطان المعظّم.. هل لاحظت، مثلا، حضور اسم السعودية، في هذه الحرب، راعياً وممولاً لقناة فضائية تسيئ لمصر، حسب النائب مرتضى منصور، الملقب "سيسي نادي الزمالك" ورئيس لجنة حقوق الإنسان في البرلمان؟
أيضاً، هل لاحظت أن خطاب السيسي المتوتر، المرتعش، جاء بعد ساعات من ضبطه متلبساً باستقبال وفد من حزب الله اللبناني، في الوقت الذي كانت فيه "دول الأرز الخليجي" تسحب رعاياها من لبنان، وتحظر السفر إليه، حيث تقرر السعودية وقف المساعدات العسكرية والأمنية، في ظل هيمنة حزب الله، حليف بشار الأسد، على لبنان، وتقرّر الإمارات تخفيض حجم بعثتها الدبلوماسية هناك؟ هل هو الخطأ الاستراتيجي القاتل هذه المرة؟
لإنعاش ذاكرتك، يمكنك العودة إلى العام الماضي، وتحديدا في فبراير/ شباط أيضاً، حين مارس السيسي اللعبة نفسها، مكايدة وابتزازاً لدول الخليج، حين عيّن سفيراً له في صنعاء، التقى رئيس ما تسمى "دائرة العلاقات الخارجية" في المجلس السياسي لجماعة الحوثي، في اللحظة التي كانت فيها "دول الأرز" الخليجية تسحب سفراءها من صنعاء، وتتأهب للتدخل العسكري ضد الحوثيين والإيرانيين.
صحيح أن السيسي وقتها تراجع، واسترجع سفيره لدى الحوثيين، وأعلن انضمامه إلى "عاصفة الحزم"، أملا في استئناف "ضخ الأرز"، إلا أنه بدا واضحاً للرعاة أن "الجنرال" الذي نصّبوه وحموه ودعموه مالياً ودبلوماسياً، يلعب على الحبلين، فيضع قدماً في طهران، والأخرى في الرياض.
لكن الوضع، هذه المرة، يبدو مختلفاً، وكأنهم قرّروا أن الجنرال المخاتل بدّد كل الفرص التي منحوها له، واستنفد عدد مرات الرسوب، فظهر على هذا النحو من هلوسة ما قبل الضياع.