السبت ، ٢٠ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٧:٣٢ مساءً

في الحارث الضاري

علي الظفيري
الأحد ، ١٥ مارس ٢٠١٥ الساعة ١٠:٥٨ صباحاً
جملة الرثاء لا تكتمل،
ثمة ما يفرق كلماتها، ويشتت شملها،
لا تقدر الواحدة منها أن تقف في وجه الأخرى،
كيف لاجتماع بغرض تأبين الشيخ المناضل، والإقرار برحيله، أن يتم!

لا أجدني متفقا على طول الخط مع الآراء السياسة للشيخ حارث الضاري، رحمه الله، بل لا أنظر له كسياسيّ بالمعنى الدارج والمستخدم لهذا المفهوم، إنه أطهر بكل تأكيد، وأكثر نقاء من رذائل السياسة وألاعيبها، لكنني، وغيري من الناس، لا يملكون إلا تقبيل جبين الراحل كلما قابلوه، ليس لمكانته التي منحه الله، فقط، بل لما قدمه بمواقفه وصلابته وانتمائه لهذه المكانة، إن ألف شيخٍ عشائري، وشيخِ دين، وسياسة، باعوا كرامتهم ومجتمعاتهم وأوطانهم عند أول منفعة، فيما باع الحارثُ الدنيا من أجل هذا الوطن، ومن أجل كرامته وسيادته، وكان قد رفض احتلال أرضه من اليوم الأول لاحتلالها، ومات على هذا الموقف، دون أن تهتز شعرة واحدة في رأسه، في الوقت الذي اصطفت طوابير المنتفعين من أبناء جلدته، عند باب الأميركي والإيراني وغيرهم، ليمنحهم مساحة ذليلة صغيرة في المشهد الكبير، وكان يفعل ذلك، ثم يرمي بهم إلى أقرب سلة مهملات، بعد أن يتحقق له الغرض من وجودهم.

من فرط قوة الشيخ الراحل حارث الضاري، وثباته على موقفه، لا يمكن أن يتجاهل الإنسان تاريخ الرجل وأسرته، جده ضاري بن محمود لم يتحمل إهانة ضابط إنجليزي، ودفع حياته ثمناً لهذا الموقف الرجولي العظيم، لكنه أيضا دفَّع الإنجليزي وبلادَه ثمن ما ارتكبوه من حماقة في حق ضاري، وما ثورة العشرين والأوجاع التي أصابت جسد المحتل إلا دليلا على الثمن الباهظ المترتب من هذا الموقف، يومها، صاح العراقيون ورددوا في أهازيجهم وهوساتهم: هزّ لندن ضاري وبكَّاها، منصورة يا ثورة ضاري، وكان الدرس الذي لا يمكن أن ينسى أبدا، قد تخسر حياتك أو امتيازاتك في لحظة ما، لكنك تكسب ما لا يمكن أن يتخيل إنسان، وتكسب بلادك وأحفادك ومجتمعك الكثير، وهذا ما أصاب الشيخ الراحل حارث الضاري، الجين البطل المقاوم الرافض للاحتلال وانتهاك الكرامة، ينتقل جيلا بعد جيل، ودفع الرجل الثمنَ البسيط في حياته، وكسب الرمزية والمكانة التاريخية التي لا يمكن أن يحلم بها الخونة.

كان بإمكان الشيخ حارث أن يلعب دورا سياسيا في المنطقة الخضراء، والتي لا تسمح أميركا بتجاوزها، وأن يتواطأ على قومه بحجة المشاركة والواقعية، كما فعلت شخصيا وأحزاب سياسية ودينية سنية أخرى، كان بإمكانه أن يرقص في البازار الطائفي الذي افتتحته طهران وواشنطن في العراق، مثل كثيرين فعلوا، لكنه أبى، لا يليق به الرقص ولا بأهله ووطنه، ظل صامدا ومتماسكا بفكرة وطن واحد للجميع، مستقل لا يتدخل الأجنبي الإيراني ولا الأميركي بشؤونه، ولم يكن طائفيا على الإطلاق، وأتذكر يوم سألته عن جرائم الأحزاب السياسية الشيعية في العراق، وأصر على تمييز الشيعة العراقيين عن الأحزاب المستوردة، وأصر على تصور لمواطنة كاملة للعراقيين، وسيادة لهم على بلدهم، وذكرني بثورة العشرين، والتي أشعلها الشيعة والسنة على حد سواء، يوم كانوا ينظرون لهوياتهم الجامعة وليس لانتماءاتهم الضيقة، ومع ذلك لم يتوحد مع مشروعه الكثير من الشيعة العراقيين، تحت وقع التحريض والتخويف والإغراء بالمغانم الآنية، لكنه اليوم يرحل، ويخلف تركة تفوق تركة كل العراقيين الماثلين اليوم في المشهد الحالي، من سنة وشيعة وأكراد وغيرهم، وسيتذكر الجميع حارثا، وسيعودون رغما عن أنفهم لنقطته الأولى، ومربعه الأول، وستهتز طهران وواشنطن من الحارث وإرثه.

"العرب القطرية"