وبالإضافة إلى صعوبة تكوين الثروة، ثمّة عقبة أخرى تتعلق بالحفاظ على الثروة وإدارتها بكفاءة تُحقق استمراريتها وتضخمها، تلك العقبة مثلًا أودت بالعديد خارج نادي الأثرياء لفشلهم في الإدارة السليمة، أو لاكتشاف احتيالهم! نعم، صعوبة تكوين الثروة دفعت عددًا لا بأس به للجوء إلى الاحتيال المالي للدخول السريع في عالم الثراء. إنّه الإرهاب المالي؛ جميعنا يعرف ما هو الإرهاب الأمني المُتعلّق بالترويع والقتل، لكننا هُنا نلقي الضوء على نوع آخر من الإرهاب – ذاك المتعلق بالجريمة المالية مُباشرةً- مع عرض لأقدم وأغرب عمليات الاحتيال المالي في التاريخ البشري.
أولًا، اشرح لي ما هو الاحتيال المالي؟
الاحتيال هو استخدام الخداع لتحقيق منفعةٍ دون وجه حق.
والاحتيال يتضمن تضليل أشخاص أو مؤسسات، ولكن قد يقول قائل، إن هذا التعريف واسع يعتمد على مصطلحات غير محددة، وربما تشمل عمليات في إطار القانون لكنّها تعود بالضرر على أشخاص آخرين، وهذا قول صحيح وينطبق أيضًا على الاحتيال المالي، فمن الممكن جدًّا أن يلجأ المُحتال إلى ثغرات القانون لتنفيذ احتياله، وهذه الطريقة ربما تحميه من المساءلة القانونية لفترة، حتى تتضخم ثروته بصورة مقلقة توقعه في النهاية تحت طائلة المساءلة القانونية.
الاحتيال المالي – كما ذكرنا- على نفس المنوال، إنه خداع مقصود ينطوي على معاملات مالية بغرض تحقيق مكسب شخصي دون وجه حقّ (يُحدده القانون وفقًا للظرف). وبالجملة فإن الاحتيال المالي هو جريمة يُعاقب عليها القانون المدني، مهما كانت تعقيدات عملية الاحتيال، فغالبًا مظاهره تكشف أنه احتيال، والتي من بينها الثراء السريع غير المتناسب مع الدخل القانوني. ومن هنا تحديدًا اشتهرت عمليات الاحتيال المالي بين من يُسمّون بأصحاب الياقات البيضاء(موظفو الأعمال المكتبية الذين يتقاضون أجورهم على أساس شهري، وهم في مُقابل أصحاب الياقات الزرقاء وهم العُمّال اليدويون الذين يتقاضون رواتبهم بالساعة أو باليوم)، بل أصبح هناك مُصطلح ذائع الصيت يُعرف بـ”جريمة أصحاب الياقات البيضاء – White-Collar Crime” وهو للإشارة إلى الجرائم المتورط فيها هذا النوع من الموظفين.
وكما هيَ العادة، تطوّر الاحتيال المالي على مرّ التاريخ وأخذ أشكالًا أكثر تعقيدًا وملاءمة لطبيعة العصر، وأيضًا بحسب طموحات المُحتال وتخصصاته. وإجمالًا، يُمكن القول إن أي جريمة تنطوي على مُعاملات مالية تدخل ضمن تعريف الجريمة المالية أو الاحتيال المالي.
والآن إلى بعض أشهر وأغرب عمليات الاحتيال المالي في التاريخ قديمه وحديثه:
أقدم عملية احتيال في التاريخ
كما ذكرنا، “أصحاب الياقات البيضاء” تعبير ارتبط بالجريمة المالية الحديثة، لكنّهم لم يكونوا الأوائل. التأريخات كُلّها تُشير إلى عام 350 قبل الميلاد في اليونان، حيث استغل زوجان الظروف شديدة الخطر التي تُحيق بمهنة نقل الشحنات بحريًّا.
دبّر “هيجيستراتوس” وزوجته “كسينوسيميث” خُطّة محكمة لعمليتهم المبنية على استغلال ظروف الشحن البحري الخطرة، حيث كان الناقلون يحصلون على أموال الشّحن في كل الأحوال حتى لو غرقت الحمولة، وذلك كتأمين مُقابل مخاطر المهنة. استغل الزوجان ذلك ووضعا الخُطّة: الخروج بسفينة فارغة عبر البحر إلى أثينا، ثُمّ إغراقها في عرض البحر وركوب قارب نجاة يتجهان به إلى أثينا ويحصلان على أموالهم من التجّار، وقبل ذلك نثر بعض الذرة على سطح المياه كدليل على أن السفينة كانت محمّلة بالبضاعة المطلوبة.
لكن وللأسف عليهما، باءت خُطتهما بالفشل لأسباب خارجة عن إرادة الإنسان، فخلال محاولتهما إغراق السفينة هبّت الرياح عليهما، انتاب الذعر الزوج فقفز إلى البحر ليلقى حتفه، فيما استمرت الزوجة على متن السفينة وقادتها إلى الميناء في أثينا، هناك كان التُجّار في انتظارهم ليتفاجؤوا أن السفينة لا تحمل شحنة الذرة التي سيدفعون ثمنها! لتُسجّل تلك الحادثة كأوّل محاولة احتيال مالي.
عندما بيعت الإمبراطورية الرومانية في المزاد!
شهدت الإمبراطورية الرومانية عام 193 ميلاديًّا تعاقب نحو خمسة أباطرة على كرسي الحكم (عام الأباطرة الخمسة)، في حادثة نادرة من نوعها. افتُتِحَ العام بـ”بيرتيناكس” الذي توّلى الحكم لثلاثة أشهر فقط، قبل أن ينقلب عليه الحرس الإمبراطوري (وهي فرقة خاصة من الجيش، مُفترض أنها تدين بالولاء مباشرة إلى الإمبراطور!).
الطريف، وبيت القصيد في نفس الوقت، أن الحرس الإمبراطوري، وبعد أن قتل بيرتيناكس، عرض كُرسيّ الحُكم في مُقابل من يدفع أكثر. الصادم أنّ الأمر كان مُعلنًا، حتّى أن مؤرخي تلك الحقبة تحدثوا عن أنّ جنود الحرس الإمبراطوري أرسلوا في المدن رُسلًا يصيحون في الناس بأن “الإمبراطورية الرومانية في مزاد، ومن يدفع أكثر يتولى حُكمها“!
بالطبع الإمبراطورية الرومانية لم تكن ملكًا للحرس الإمبراطوري أو لغيره، لذا عُدّت طريقتهم تلك من باب الاحتيال؛ لقد قتلوا إمبراطورًا، وها هم يبيعون الإمبراطورية مُقابل المال! وبالفعل تقدّم “ديديوس يوليانوس” بدفع 250 قطعةٍ ذهبية لكل جندي في الحرس الإمبراطوري، وهو ما يُساوي الآن حوالي مليار دولار لكل جُندي!
احتيال الحرس الإمبراطوري جرّ البلاد إلى فتنة شديدة، إذ تمردت باقي فرق الجيش بسبب عدم حصولها على شيء من المال. وأعلنت كل فرقة قائدها قيصرًا/ إمبراطورًا. في النهاية لم يستمر يوليانوس في الحكم أكثر من شهرين، إذ ذهب المجلس الروماني إلى اتهامه بالخيانة، وحُكِمَ عليه بالإعدام على خلفية طريقة وصوله للحكم.
أراد تحقيق الرخاء، فباع الوهم!
إنّه الاقتصادي الإسكتلندي جون لو (توفي عام 1729)، الذي كوّن ثروته بالأساس عن طريق الخداع في لعبة القُمار. احتال مستخدمًا مظلّة القانون، لكنّ ظل احتياله أخلاقيًّا، إذ كان يُجري عمليات حسابية في عقله تُمكّنه من حساب أوراق اللعب ومن ثمّ الفوز بالمقامرات.
ساعدته ثروته تلك على اشتهاره كواحد من أهم الاقتصاديين في أوروبا في القرن الثامن عشر، حتّى أن فرنسا وقتها عيّنت جون لو مراقبًا عامًا للمالية، وذلك بُغية الخروج من الأزمة التي ضربت البلاد على خلفية الحروب التي خاضها لويس الرابع عشر، والتي استنزفت اقتصاد فرنسا.
وضع “لو” خُطّة لدفق المال في الخزينة الفرنسية، إلا أنّها كانت قائمة على بيع الوهم! أنشأ جون لو شركة لاستخراج الذهب من ولاية لويزيانا في أمريكا، وكانت وقتها خاضعة للسيطرة الفرنسية. أطلق عليها اسم “شركة مسيسيبي” وفتح اكتتابًا عامًا على أسهمها، بمعنى أنّه فتح باب الاستثمار في الشركة بشراء أسهمها، وبالفعل تقدّم النّاس للشراء، لكنّ كانت ثمّة مشكلة واحدة، وهي أنّ ولاية لويزيانا لا يوجد فيها ذهب، في الحقيقة لم يكن يوجد فيها سوى المستنقعات، ولم يُكلّف أحد نفسه (من المستثمرين أموالهم في الشركة) ليبحث عن حقيقة ادعاء الكشف عن الذهب في منطقة يفصل بين المستثمرين وبينها المحيط الأطلنطي.
كان جون لو يدفع الفائدة لكل مستثمر من أموال مستثمر آخر، وهكذا دواليك. في النهاية اكتشف بعض المستثمرين حقيقة الأمر، أنّ الشركة وهمية. فبدؤوا في بيع أسهمهم بأسعار متدنية، وفي النهاية خسر الجميع، وهرب جون لو من فرنسا متنكرًا في هيئة متسول، ليعيش بعد ذلك تسع سنوات في فقر مدقع.
الرجل الذي باع بُرج إيفل مرّتين!
عمومًا، فإن فيكتور لوستج (توفي عام 1947) هو مُحتال من الطراز الرفيع، يكفي أن تعرف عنه الجهد الذي بذله على نفسه للوصول إلى ما وصل إليه في عالم الجريمة المالية. كان لوستج يتقن 5 لغات، واستطاع أن يغيّر شخصيته واسمه 45 مرّة، لينفذ بها احتيالات مُتعددة. وبالجملة، فإنّ فيكتور لوستج من الشخصيات التي كرّست حياتها للاحتيال، إذ لم يُمارس في حياته عملًا جادًا شريفًا.
وكانت أشهر وأغرب احتيالات فيكتور لوستج، بيعه برج إيفل ليس لمرة واحدة، بل مرّتين! ما حدث أنّه بعد خروج فرنسا من الحرب العالمية الأولى، كان اقتصادها يُعاني الأمرّين، وفي المُقابل احتاج بُرج إيفل للصيانة والترميم بعد انتشار الصدأ فيه، الأمر الذي كان صعبًا على السلطات الفرنسية أن تقوم به في ذلك الوقت لارتفاع كلفته. وعلى جانب آخر كان سُكّان باريس مستائين من هيئة البرج الذي أضحى كومة قبيحة من الحديد.
لكن لفيكتور رأي آخر.. رأي صنع منه أسطورةً في عالم الاحتيال والجريمة المالية. لقد استأجر غرفةً في فندق كبير، وأرسل بدعوات على أوراق حكومية مزورة، إلى عدد من كبار رجال الأعمال الذين حضروا على غير علم بسر الاجتماع. قدّم فيكتور نفسه كمسؤول بارز في الحكومة الفرنسية، وعرض على رجال الأعمال شراء بُرج إيفل من الحكومة والاستفادة به وبالأرض المبنيّ عليها، مشددًا على ضرورة إبقاء الأمر سرًّا! وبالفعل نجح فيكتور في إقناع أحدهم بشراء برج إيفيل مُقابل نحو 70 ألف دولار، أخذهم فيكتور وفرّ هاربًا إلى فيينا.
التاجر الذي وقع ضحيّة فيكتور شعر بالحرج الشديد للدرجة التي جعلته يؤثر الصمت على الحديث، لكنّ صمته دفع فيكتور لتكرار الأمر بنفس الطريقة مع عدد آخر من رجال الأعمال لكن هذه المرّة بقيمة بيع أعلى. استطاع أسطورة الاحتيال أن يبيع برج إيفيل في المرة الثانية بـ200 ألف دولار، والفرار هربًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية. لكن هذه المرّة افتضح أمره حيث إن الرّجل أبلغ عنه.