لا يمكن إهمال المعرض الضخم الذي انطلق حديثا في "معهد العالم العربي" في باريس، تحت عنوان "أوزيريس-مصر وكنوزها الغارقة".
فمن خلال 240 قطعة أثرية عثر عليها فريق "المعهد الأوروبي للآثار البحرية" في خلجان الإسكندرية وأبي قير، يسعى منظمو هذه التظاهرة إلى التعريف بطقوس وشعائر الاحتفاء بـ"أسرار أوزيريس"، وبالتالي إلى إعادة إحياء إحدى الأساطير المؤسسة للحضارة الفرعونية.
أكثر من ذلك، يغوص بنا المعرض -الذي يحظى بترتيب هندسي مدهش يحتل 1100 متر مربع- في الأجواء الساحرة لعمليات التنقيب البحري من خلال أفلام وصور ثلاثية الأبعاد. وكما لو أن ذلك لا يكفي، استقدم منظموه أربعين تحفة أثرية من متاحف مصرية مختلفة تُعرض للمرة الأولى خارج مصر.
كنوز غارقة
وتجدر الإشارة بداية إلى أن معظم القطع الأثرية المعروضة عُثر عليها في مدينتي هيراكليون وكانوبس الغارقتين منذ القرن الثامن في قاع خليج أبي قير، على بعد بضعة كيلومترات شرق الإسكندرية، وهي قطع تتراوح بين صروح وتماثيل وأوان شعائرية وأضاحي طقسية، وتسمح بالتالي بإعادة تشكيل عبادات أوزيريس التي راجت في مصر القديمة.
غواص ينقب عن الآثار المصرية الغارقة (مؤسسة هيلتي)
أما القطعة التي وضعت بعثة "المعهد الأوروبي للآثار البحرية" على درب المدينتين المذكورتين، فهي لوحة حجرية اكتُشفت عام 1881 ونُقش عليها -عام 238 قبل الميلاد- مرسوم كانوبس الذي يذكر أنه "في شهر خوياك من كل عام، كانت تؤدى بين مدينتي هيراكليون وكانوبس شعائر وطقوس دعيت بأسرار أوزيريس".
لكن من أوزيريس؟ وفقا للنصوص التي ترافق القطع المعروضة، يعتبر أكثر "آلهة مصر القديمة" إنسانية، وبالتالي يختلف عن تلك الكائنات الخرافية التي تظهر بأجساد نصف بشرية ونصف حيوانية.
وتروي الأسطورة أن والديه هما السماء (الإلهة نوت) والأرض (الإله جب) وأنه ورث عنهما مملكة الأرض، فعلّم البشر الزراعة وعبادة الآلهة ومنحهم القوانين، وتعرّض لخيانة على يد أخيه ست الذي تآمر في السر عليه وقتله، قبل أن يقطع أوصاله ويرمي بها في مختلف أنحاء مصر.
لكن زوجة أوزيريس -وأخته في الوقت ذاته- إيزيس، ستبحث عن هذه الأشلاء وتعثر عليها الواحد بعد الآخر، فتعيد تشكيل جسده. وبالتالي، يعود خلاص أوزيريس إلى حب إيزيس التي تلقت مساعدة في مهمتها من أختها نفتيس ومن أنوبيس، وابتكرت في هذا السياق فن التحنيط، قبل أن تدعو زوجها إلى الانبعاث حيا.
اكتشاف الأسطورة
هكذا تغلب "أوزيريس" على الموت فمنح البشرية وعد الحياة الأبدية. ومن حب أوزيريس وإيزيس ولد ابنهما "حورس" الذي سينتقم لأبيه من ست وينتصر على أعدائه فيصبح ملك مصر الشرعي ونموذجا يقتدي به جميع ملوك مصر اللاحقون.
ويعود الفضل إلى الفيلسوف اليوناني بلوتارخ (القرن الثاني) في رواية أسطورة إيزيس وأوزيريس. فبخلاف المصادر المصرية المتباينة وغير المكتملة، منحنا هذا الفيلسوف سردية متماسكة وأصيلة رغم إضفائه مسحة يونانية عليها.
أما الفضل في ديمومة هذه الأسطورة وتجنيبها الضياع، فيعود إلى طقوسها التي كان الفرعون وحده مؤهلا لممارستها داخل المعابد، بينما لم توكل إلى الكهنة سوى مهمة ترؤس الشعائر اليومية بتفويض ملكي.
وفي المعرض، يتبين لنا أيضا أن "أسرار أوزيريس" شكلت الأعياد الطقسية السنوية الأهم في مصر القديمة. فمنذ القرن التاسع عشر قبل الميلاد، كان تمثال "الإله" المزخرف بالحجارة الكريمة والذهب يخرج من المعبد في مدينة أوزيريس المقدسة أبيدوس، ثم في جميع المدن المصرية، ضمن ابتهاج شعبي كبير. وكان الكهنة يمثلون بعض فصول آلام أوزيريس منشدين ابتهالات جنائزية وممجدين انتصاره على الموت.
بعد ذلك، كان الموكب يتوجه إلى قبره. وخلال هذه الأعياد، كانت تُنظم أيضا احتفالات سرية في "دار الإله" تتركز على قيامته.
نشير أخيرا إلى أن بعض القطع الأثرية المعروضة تكشف عن تواطؤ لاهوتي بين مذهب أوزيريس المصري ومذهب ديونيسوس الإغريقي، يعود إلى القرن السابع قبل الميلاد، وهي الحقبة التي استقر اليونانيون خلالها في مصر.