في لحظة تاريخية فارقة، تستعيد منطقة الباحة 400 عام من التاريخ لتجسدها في جناح واحد مذهل ضمن مهرجان الملك عبدالعزيز للإبل. هذه المنطقة الجبلية الساحرة التي تحتضن 40% من الحرف التقليدية السعودية تواجه اليوم تحدياً مصيرياً - إما إحياء تراثها الأصيل أو مشاهدته ينقرض إلى الأبد. والآن، بتوجيهات أميرية سامية، تنطلق رحلة سحرية لاستكشاف كنوز مخفية لم يعد يعرفها إلا القلة.
"عز لأهلها" - ليس مجرد شعار، بل صرخة كرامة تردد في أروقة النسخة العاشرة للمهرجان الأعرق عالمياً. نورة الغامدي، 35 عاماً، رائدة الأعمال التي تركت وظيفتها الحكومية لتزرع البن الشدوي، تقول بعينين تتلألآن بالفخر: "حققت في ثلاث سنوات ما لم أحلم به في عشرين سنة وظيفة." جناح الباحة يضم اليوم ثلاث مدن تنموية استثنائية - مدينة البن، مدينة الرمان، ومدينة العنب - تشكل نموذجاً فريداً للتنمية المستدامة القائمة على الجذور الأصيلة. رائحة البن المحمص تختلط بأصوات النول وهو يغزل الصوف، في مشهد يأخذك عبر الزمن.
د. محمد الزهراني، أستاذ التراث الشعبي، يكشف حقيقة صادمة: منطقة الباحة تضم أكثر من نصف الحرف التقليدية السعودية، لكن معظمها مهدد بالانقراض خلال العقدين القادمين. قرية ذي عين الأثرية، هذه الجوهرة المعمارية التي تتلألأ على جبال الباحة منذ أربعة قرون، تحكي قصة حضارة كاملة. "كما كانت طريق الحرير تربط الحضارات، يربط جناح الباحة اليوم بين الماضي والحاضر،" يؤكد الخبير. الجناح لا يعرض التراث فحسب، بل يحتفي بانتشار زراعة البن الشدوي كانتشار النار في الهشيم بين المزارعين الطموحين.
أحمد الشهري، الزائر من الرياض، يصف تجربته بالرحلة عبر الزمن: "شاهدت الخبزة المقناة والعصيدة تُحضر بأيدي تحمل خبرة أجيال، وتذوقت البن الشدوي الذي لم أعرف أن له هذا الطعم السحري." بينما يشكو أبو سعد العتيبي، 65 عاماً من كبار مربي الإبل، من تراجع اهتمام الشباب، فإن المهرجان يشهد اليوم تحولاً جذرياً - شباب يتعلمون صناعة الخوص ونساء يتقنن غزل الصوف. الفرص الاستثمارية في القطاع الزراعي والسياحة التراثية تتزايد يومياً، لكن التحدي الأكبر يبقى في المحافظة على الأصالة وسط رياح التطوير.
المسار التخيلي في الجناح، حيث يرافق الزوار جملان بلونين مختلفين يجسدان تاريخ المنطقة، ليس مجرد عرض - بل رسالة واضحة. الباحة اليوم في طريقها لتصبح عاصمة التراث السعودي ونموذجاً عالمياً للتنمية المستدامة القائمة على الهوية الثقافية. هذا المهرجان ليس مجرد حدث موسمي، بل نقطة تحول تاريخية. السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل سنحافظ على هذا التراث الاستثنائي للأجيال القادمة، أم سنتركه ينقرض تحت ضغوط العصر؟