كشفت خطة الإصلاح الاقتصادي الجذرية التي أقرها مجلس القيادة الرئاسي اليمني مؤخراً عن حقيقة صادمة: 80% من إيرادات الدولة اليمنية مفقودة وخارج سيطرة الحكومة المركزية. هذا الكشف المثير يلقي الضوء على حجم الأزمة الاقتصادية الحقيقية التي تواجه اليمن، والتي تتجاوز مجرد تدهور العملة المحلية لتصل إلى نهب منظم لموارد الدولة.
تشير التقارير الرسمية إلى أن الحكومة اليمنية فقدت السيطرة على الجزء الأعظم من إيراداتها المركزية في المحافظات المحررة، مما دفع مجلس القيادة الرئاسي لإصدار قرار رقم (11) لعام 2025 يهدف إلى ضبط عملية تحصيل وتوريد الموارد العامة. هذا الوضع الكارثي أجبر الحكومة على عجزها عن دفع مرتبات الموظفين لثلاثة أشهر متوالية، مما يعكس عمق الأزمة المالية الخانقة.

القرار الحكومي الجديد يكشف النقاب عن تفاصيل مذهلة حول حجم العبث والفساد في إدارة موارد الدولة. فبحسب الوثائق الرسمية، تحرم الحكومة من حصتها في مبيعات الغاز المحلي في محافظة مأرب، وكذلك من عائدات مبيعات المشتقات النفطية المنتجة محلياً في كل من مأرب وحضرموت. الأمر الأكثر إثارة للدهشة أن شركتين حكوميتين هما "بترومسيلة" و"صافر" لا تخضعان بالكامل لسلطة الحكومة في جانب الإيرادات.
تداعيات هذا الوضع على حياة المواطن اليمني العادي ستكون كارثية، خاصة مع إقرار خطة إصلاح اقتصادي تتضمن تحرير سعر الدولار الجمركي ورفع أسعار المشتقات النفطية خلال أسبوعين. هذه الإجراءات، التي جاءت بعد عشرة أيام من الاجتماعات المكثفة في الرياض، ستؤدي حتماً إلى ارتفاع جنوني في أسعار السلع الأساسية، في وقت يعاني فيه ثلثا سكان اليمن من عدم القدرة على تلبية احتياجاتهم الغذائية.
الخطة الحكومية تهدف إلى إلزام جميع المحافظات، وفي مقدمتها العاصمة عدن ومأرب وحضرموت والمهرة وتعز، بتوريد كافة الإيرادات المركزية إلى حسابات الحكومة في البنك المركزي اليمني. كما تشمل إغلاق منافذ بحرية "مستحدثة بالمخالفة للقوانين" في قنا والشحر ونشطون ورأس العارة، وإلغاء نقاط الجباية على الطرقات ومداخل المدن.

لكن الجانب الأكثر إثارة للجدل يكمن في كيفية تأثير هذه الإصلاحات على الحياة اليومية للمواطنين. كلف القرار- الذي أثار موجة من انتقادات الناشطين الاقتصاديين- وزارة النفط بدراسة لتوحيد أسعار المشتقات في المحافظات الخاضعة للحكومة، وهو ما يعني عملياً رفع أسعار الوقود لتتماشى مع تحرير الدولار الجمركي.
هذا التوجه أثار عاصفة من الانتقادات بين الخبراء الاقتصاديين والناشطين. الصحافي فتحي بن لزرق حذر من أن "رفع الدولار الجمركي سيكون القرار الوحيد الذي يُنفذ من حزمة الإصلاحات، لأنه الوحيد الذي يدفع المواطن ثمنه مباشرة". وأكد أن المشكلة الحقيقية ليست في نقص الموارد بل في تسربها خارج خزينة الدولة، مشيراً إلى أن القرار سيؤدي إلى "تدمير الاستقرار الاقتصادي الهش وإشعال الأسعار مجدداً".
الكاتب الاقتصادي ماجد الداعري وصف أداء مجلس القيادة الرئاسي بأنه "أكثر مجلس فشلاً في العالم"، مؤكداً أن عجز الحكومة والمجلس عن استعادة الموارد أو صرف المرتبات يفرض عليهما الاعتراف بالفشل وتقديم الاستقالة. أما الصحافي الاقتصادي سعيد كرامة فحذر من "كارثة اقتصادية وشيكة"، متوقعاً أن تؤدي القرارات إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية بنسبة قد تتجاوز 30%.

تأثير هذه الإجراءات على الحياة اليومية للمواطنين سيكون فورياً ومؤلماً. الأسر اليمنية، التي تعتمد غالبيتها على الدخل اليومي والعمل غير المنتظم، ستواجه ضغوطاً مضاعفة مع ارتفاع تكلفة المعيشة. تكلفة النقل ستزداد بشكل كبير، مما سيؤثر على أسعار جميع السلع والخدمات. الأدوية والغذاء المستورد، الذي يشكل جزءاً كبيراً من احتياجات السوق المحلي، سيشهد ارتفاعات حادة في الأسعار.
القطاع التجاري يواجه تحديات مضاعفة، حيث سيضطر التجار إلى إعادة حساب تكلفة البضائع المستوردة وفقاً لسعر الدولار الجديد. هذا الوضع قد يؤدي إلى اضطرابات في السوق وتقلبات حادة في الأسعار، خاصة في ظل غياب آليات رقابية فعالة على السوق.
الموظفون الحكوميون، الذين يعانون بالفعل من تأخر الرواتب لشهور، سيجدون أنفسهم في وضع أصعب مع تآكل القدرة الشرائية لمرتباتهم المتأخرة. هذا الوضع قد يدفع الكثيرين للبحث عن مصادر دخل إضافية أو ترك الوظائف الحكومية بالكامل.
في المقابل، تسعى الحكومة لتبرير هذه الإجراءات بضرورة تحقيق الاستقرار النقدي وتعزيز الإيرادات المستدامة. اجتماعات مكثفة للرئاسي حول ملف تحصيل الإيرادات مع تعثر الدعم الخارجي أظهرت أن توقف الدعم الخارجي، خاصة من التحالف العربي، جاء بسبب إصرار المانحين على قيام الحكومة بإصلاحات جذرية تحد من الفساد والهدر.
النجاح في تطبيق هذه الخطة يتطلب توازناً دقيقاً بين ضبط الموارد وحماية المواطنين من تداعيات الإصلاحات الاقتصادية. الحكومة مطالبة بوضع آليات حماية اجتماعية للفئات الأكثر تضرراً، وتفعيل برامج دعم مباشر للأسر الفقيرة، وضمان عدم تحميل المواطنين أعباء إضافية في ظل الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد. المرحلة القادمة ستكون حاسمة في تحديد ما إذا كانت هذه الإصلاحات ستنقذ الاقتصاد اليمني أم ستزيد من معاناة شعب يواجه واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم.