انتقل الى ربه تعالى بمنزله بمدينة عدن اليوم الفنان اليمني الكبير محمد مرشد ناجي عن عمر ناهز 86 عاما بعد معاناة مع المرض امتدت لسنوات اجرى خلالها عدد من العمليات العلاجية في كل من الهند وبيروت ,واجرى ثلاث .
يعد الفنان الكبير محمد مرشد ناجي واحدا من أهم دعائم "الغناء التجديدي الحديث"، بالإضافة لدوره البارز والهام والمؤثر بتقديم الموروث والفلكلور الغنائي اليمني بكل تلاوينه وإيقاعاته المختلفة والمتعددة بأسلوب رائع أخّإذ ومقدرة فائقة أعادت إليه الروح والحياة بعد حالة الإهمال والنسيان ولعل "المرشدي" من الفنانين القلائل الذين تمكنوا ببراعة من تقديم عطاءات ونتاجات إبداعية استندت على محاكاة التراث اليمني برؤيته المستقلة وبمنظوره ومنهاجه ومدرسته المتميزة معتمدا بذلك على جمال وعذوبة ورقة "صوته الذهبي" وسلاسة وسلامة مخارج الألفاظ والقدرة الهائلة على التغيير والتنويع بخلق جمل موسيقية ومقامات لحنيه وإيقاعات يمنية مصحوبة بثراء في العاطفة والشجن المتدفق المرتبط بجذور وأصول التربة اليمنية المعطاة،
المرشدي سيرة عطرة
ولأن الحديث عن الفنان والشاعر والملحن االراحل المرشدي حديث ذو شجون ليس هنا متسع له فقد حاولنا ومن خلال لقاء مطول مع الفنان الكبير اجريناه مع الفنان الراحل في منزله بحي ريمي بمدينة المنصور اقتفاء بعض آثار حياته منذ الولادة وحتى زمن نشوان، معترفين بأن ما لم نأت به في هذا الحديث هو الشيء الأجزل في حياة فنان يشارف على عقده الثامن ومازال فيه من روح وإبداع الشباب ما يجعلنا نتمنى عليه أن يمنحنا من عطائه الفني وإبداعه الراقي ما يمنحنا أكبر التفاؤل بأننا مازلنا نحيا في وطن فيه من العباقرة ولو شخص واحد..
الميلاد
يقول الفنان القدير محمد مرشد ناجي: أنا من مواليد 4 جمادى الآخرة 1348هـ الموافق 6 نوفمبر 1929م في مدينة الشيخ عثمان من أم صومالية الأصل واسمها عورلاعبدي وفرعها الصومالي كما يقال عريق وأصيل، إذ إنها من قبيلة يقال إن جذورها عربية وتدعى مجيرتين .. لم تعلمنا أمي - أنا وإخوتي - اللغة الصومالية وكانت حتى إذا تحدث إليها نساء أو رجال من الصومال ترد عليهم بلغة مختلطة من العربية والصومالية، أما أبي فيعود إلى منطقة معافر “الشويفة” قال إنه ترك قريته هرباً من عذاب الإمامة وذلك في أثناء الحرب العظمى “1914ـ 1918م”.
ويستعرض المرشدي بدايته مع الغناء بالقول: بدأت من البيت متأثراً بأبي الذي كان يتمتع بصوت جميل ولا يمر يوم دون أن يغني بمهاجل القرية وغنائها الشعبي ـ وظلت عادة الغناء اليومية ملازمة له حتى آخر عمره وقد وجدت نفسي مشدوداً إليه، اصغي إليه باهتمام، كما كان أخي الأكبر أحمد من أمي مولعاً بالعزف على آلة السمسمية ويكاد يكون الأول في العزف على هذه الآلة الشعبية.
إلى جانب ذلك كنت استمع إلى الاسطوانات الشمعية لأغاني المطربين المحليين والعرب، فضلاً عن الحضور الدائم في حفلات الأعراس من الاستماع إلى المطربين الذين يحيون تلك الحفلات والتعرف على أشخاصهم.
أما بداية ممارستي للغناء فقد كانت في المرحلة الابتدائية، حيث كان في مدرستنا استاذ لطيف وفنان هو الأستاذ أحمد حسن عبداللطيف الذي اكتشف حبي للغناء وشجعني على أداء الأناشيد والأغنية المحلية عندما كنت أزوره في البيت كما كنت أصعد مع بعض الزملاء منارة مسجد الهاشمي في كل يوم جمعة قبل الأذان لنؤدي التذكير وهي أناشيد دينية كان يطلقها الفتيان عادة من فوق منارات جميع المساجد في ذلك الوقت كلها صلوات وتسليمات على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبدأ هكذاً:
الصلاة والسلام عليك ياسيدي يارسول الله وعليك صلى الله.
وكانت أول مرة أغني فيها على مستوى عام هي عندما حضرت حفل عرس في شارعنا وتعالت الأصوات من الجيران الذين كانوا يسمعونني أغني وغنيت أغنية كانت تستهويني وقتذاك “ بن هرهرة قال سالت دمعتي من عيوني، ولكثرة حفلات الأعراس كانت الحال تتكرار إذا ما حضرت ويعزف لي المطرب لحن الأغنية بين اعجاب الحاضرين وتشجيعهم لي..
واستمر الحال كذلك إلى أن جمعتني الصدفة مع الصديق الشاعر المرحوم أدريس أحمد حنبلة الذي اقترح عليّّ الانضمام إلى ندوة الموسيقى العدنية التي كان هو عضواً فيها، وفي تلك الفترة كانت تلك الندوة حديث الصحافة المحلية لأسلوبي الغنائي المتجدد المسمى وقتها بالأغنية العدنية ومحاولتها الخروج بالأغنية من الجمود الذي اعتراها بعد وفاة القمندان في لحج.
وفي يوم زياراتي للندوة غنيت من محفوظاتي بعض الأغاني المحلية والمصرية وتتابعت زياراتي لمقر الندوة في اللقاء الأسبوعي، ونتيجة لما لمست من الاهتمام من الندوة وعلى رأس الجميع الأستاذ الفنان خليل محمد خليل توطدت علاقتي مع الجميع كما كنت اقدم حينها عدداً من الأغاني في احتفالات نادي الشباب الثقافي اقدم خلالها الغناء المحلي القديم وأغاني خليل الجديدة والغناء المصري وهكذا..
مع التلحين
ويستعيد المرشدي ذكرياته مع 26 سبتمبر ويقول: لم يكن يخطر على بالي أن أجرب التلحين، لكن هذا الأمر أخذ يطرح علي وقد تكلم معي بهذا الشأن الصديق الشاعر المرحوم محمد سعيد جرادة وقال: أنا علي القصيدة وعليك اللحن، وكتب القصيدة في الحال وناولني إياها وكانت قصيدة “ وقفة” واعتبرت ذلك من الصديق الجرادة بمثابة تشجيع لصديق لا أكثر ولا أقل.
ويضيف المرشدي: طبيعي أن البداية في التلحين بالشعر الفصيح أمر له صعوبته البالغة ولكن اعجابي بالقصيدة هزم التهيب في نفسي وظللت أياماً أعيش مطلع القصيدة إلى أن يتسلل مفتاح اللحن وأمضيت بعده شهراً حتى اتممتها وحينما أسمعتُ الإخوان اللحن في النادي وفي مقدمتهم الشاعر محمد سعيد جرادة استحسنوه ثم اتبعته بلحنين من شعر الجرادة أيضاً “هجرت وابعدتني، وشبابك ندي ريان” والأخيرة كتبها بالعافية بعد جهد مضنٍ معه.
المرشدي في إذاعة عدن.. حيرة ما بعدها
يعتبر الفنان القدير محمد مرشد ناجي أن شهرته الحقيقية بدأت بعد تسجيله لعدد من الأغاني في إذاعة عدن، ويشير أن الإذاعة التي تأسست في اغسطس 54م قد قررت في مستهل عام 55م دعوة المطربين لتسجيل أغانيهم، ويقول المرشدي: لم يكن في تقديري ان التسجيل للإذاعة سيدخلني في طور لم يكن في حسباني .. كانت المسألة في البداية من قبيل الهواية والترفيه سجلت وسجل غيري وكان مدير الإذاعة توفيق ايراني يضع أمامنا ساعة أثناء التسجيل ويقول سجل لمدة نصف ساعة والمقابل ثمانين شلناً وكنت أحتال عليه بتسجيل اغنيتين وبينهما تقاسيم لا معنى لها إلى جانب التكرار الممل لمقاطع الأغنية لكن الإذاعة كشيء جديد على الناس نالت أغانيها اعجابهم وما نالته هذه الأغاني من شهرة لدى المستمعين سجلتني كمطرب وطوقتني بمسئوليات ما كانت تخطر على البال.. واعتبرت أنني قد ضقت ذرعاً بهذا الوضع الجديد الذي أمسك بخناقي وأدخلني في مازق يصعب الفكاك منه، وقضية احتراف الغناء قضية مرفوضة من أساسها ولكن بعد شهرتي الواسعة من قبل الإذاعة وقعت في الممارسة الاحترافية، بدون مقابل، وإنما كنت أجهد نفسي دون طائل من أجل حب الناس ووقعت في حيرة ما بعدها حيرة.
مع الأغنية الوطنية
ـ وإذا كانت إذاعة عدن قد وضعت الفنان المرشدي في حيرة ما بعدها حيرة لما منحته من شهرة ومعجبين وأجبرته على احتراف الغناء فإن منعطفاً فنياً آخر قد حدث أثر على نوعية الغناء الذي كان يؤديه.. وتمثل هذا المنعطف بقرار نادي الشباب الثقافي الذي كان عضواً فيه إقامة حفلة موسيقية تكون مدفوعة الدخول لمواجهة الضائقة المالية التي كان النادي يمر بها وذلك في مدينة الشيخ عثمان ويحيي هذه الحفلة الفنانين محمد مرشد ناجي وأحمد قاسم.. ويقول المرشدي: حاولت التخلص من هذه المهمة لكنهم اقنعوني بأسلوب تحريضي بضرورة دور الغناء في تدعيم المنظمات الوطنية.. ولم يدر بخلدي كما حدث مع الإذاعة أن هذه الحفلة ستدخلني في منعطف آخر مع الجماهير وفي منافسة فنية ومواقف لا نهاية لها وبنجاحها فتح الباب لحفلات فنية لا أول لها ولا آخر.
ويتذكر المرشدي: وفي هذه الحفلة قدمت لأول مرة أغنية وطنية بعنوان “ياظالم” من كلمات الأستاذ المرحوم عبدالله هادي سبيت وكنت أول من دخل هذا الميدان، ميدان الأغنية الوطنية، ولم يكن في تصويري أنني بهذه المبادرة ادخل منعطفاً جديداً وأصبحت الجماهير تطلب مني نشيداً وطنياً في كل حفلة، كما كان يطلب مني ذلك في “المقايل” بسبب الزخم الوطني الذي كان سائداً في مستعمرة عدن.
تمسك بالوطن
كان الفنان الكبير محمد مرشد ناجي خلال حياته الفنية الحافلة واحداً من رواد الأغنية، واستطاع بما قدم من أعمال وطنية وعاطفية رائعة ان يأخذ بألباب الجماهير التي عشقت فنه بل وحفظت معظم أغانيه.. ورغم حالات الشد والجذب التي عاشها المرشدي في علاقاته مع صناع القرار السياسي في عدن عقب الاستقلال عن الحكم البريطاني إلا ان ما يحسب لهذا الفنان أنه ظل متمسكاً بوطنه رافضاً اغراءات عديدة عرضت عليه في عدد من دول الخليج بل إنه رفض اغراءات أخرى قدمت إليه في سبيل ان يحظى منه بعض زعامات المنطقة بأغاني مديح، وذلك لكونه يؤمن ان الفنان ينبغي ان يظل أسمى من رماد الفلوس.
في وقت سابق حاورت 26سبتمبر الراحل الكبير وحين كنا نحاوره تذكرناه وهو يؤدي أغنيته التي يقول فيها «عاده لا دول بيض» ويقصد بها هنا ان القطن كلما ازداد عمراً ازداد لمعاناً طرق المرشدي يومها مواضيع جريئة وربما لاول مرة، سواء عن الموسيقى الصنعانية او لعلاقته بقيادات الجنوب آنذاك، او عن الفنانين الخليجيين، الذين لا تراث لهم - كما يقول «أبو علي
سألناه لماذا لماذا لم تعد الموسيقى اليمنية، بتلك القوة التي كانت عليها قبل اكثر من 30 عاما، سواء في عدن او صنعاء ؟فقال:
لا افشي سراً ان قلت ان قضية الموسيقى في اليمن قبل العام 60م (صفر)، فلا يوجد احد يعزف بإجادة، ولا توجد آلة معينة يعزف عليها شخص بإجادة، أما الموجود فهي خربشة في خربشة، وعندما جاءت الثورة، واستمرت لم تهتم بالاقتصاد أو بالموسيقى وهذا طبيعي ولا احد يستطيع ان يأخذ على النظام آنذاك اوجه القصور، فالثورة ظلت تقاتل طيلة سبع سنوات ليس كالذي حصل في مصر عندما تخلصت من الملكية فيها وهمه الثوري اكبر من الموسيقى او ارساء اسس للثقافة، وسيأتي ذلك لاحقاً.
ويواصل «المرشدي» قائلاً: بالرغم من دخول التكنولوجيا من تلفاز واذاعة الى بلادنا، الا ان آلة العود ما تزال متواجدة الى يومنا هذا.
وللاسف هذا تخلف كبير.. ومحل تقدير مرير من جانب اخواننا في دول الجزيرة والخليج.. ودائماً ما يقولون «ما لهم اليمنيين محلك سر».. ما زالوا يستخدمون العود، ولا توجد نظم او غير ذلك ولا زالت الامور كما هي.. فالفنان في صنعاء لا يزال يستخدم العود فقط.
ولاحظ ان نصف الاغاني التي تبث عبر الفضائية اليمنية وهي وسيلة اعلامية عالمية - ان آلة العود ما زالت قائمة فيها.
قلنا في صنعاء..الناس تحب ان تسمع الاغنية على آلة العود؟
قال :هذا غير صحيح.. فالاغنية التي لا بد ان يقدمها الفنان بالعود، معروفة وقليلة جداً.. وهي في الناحيتين الفلوكلورية والتراثية، لكن في الاغنية الحديثة - ايضاً - لا يزال العود هو قائماً، وهذا ايضاً رد على احد اسئلتك التي تقول: لماذا لا تنتشر الأغنية اليمنية على الساحة الفنية العربية.
مرة اخرى.. اقول الناس في صنعاء لا تستطيع ان تسمع الاغنية الصنعانية الا بالعود؟
وانا استطعت ان اقدم عملاً مع الفنان الشهير محمد عبده.. وهو عبارة عن اغنية «صنعانية» بالموسيقى، ولان الاستاذ محمد عبده فنان يمتلك فرقة موسيقية تتحرك بامره وهي فرقة تلقت تعليم موسيقي متقدم - فاقترحت عليه هذا العمل، فوافق وعملناه.. وقدم للمتلقي في بلادنا، والذي اشاد به اخواننا في المجالس الصنعانية لعلية القوم في صنعاء لانها كبيرة وخطيرة جداً فالمجالس تجمع المثقفين والمتعلمين والرجال المحترمين، ومن يداوم على التواجد فيها خلال سنة او سنتين يزداد اطلاعاً وثقافة، فالآراء التي تخرج منها، يتبعها معظم الناس.
وفي احدى زيارات الفنان محمد عبده لصنعاء في فترة سابقة قال اعتبر زيارتي هذه فتحاً موسيقياً جديداً لي.
لماذا؟
لانه اطلع على الذوق في بلادنا، فاقام اكثر من حفلة فيها، وشعر بفرحة غامرة بانه استطاع ان يجذب الاذن اليمنية اليه، واستطاع ان يستقطب معظم -إن لم نقل جميع- المغتربين اليمنيين المتواجدين في المملكة العربية السعودية الى صفه من خلال اغنية جل من نفس الصباح فالمتلقي - والكلام للمرشدي - عندما يكذب هؤلاء الناس الذين يقولون ان الاغنية الصنعانية لا نتذوقها الا مع العود فالاغنية الصنعانية هي اعظم اغنية في بلادنا، واي شعب عربي يتمنى ان تكون معه اغنية كالتي تسمى بالاغنية الصنعانية، واقول ما تسمى بالاغنية الصنعانية، فهي فن جميل وراق جداً.. واستطاع اخواننا المصريون حالياً ان يعزفوها بسهولة، وهو دليل انها صالحة بشكل كبير للموسيقى.
ما هي الحلول والمخارج لكي تتقدم الاغنية في بلادنا خطوات الى الامام؟
لابد ان تتحمل الدولة مسؤوليتها في سن القوانين والتشريعات التي يجب ان يتبعها الجميع في العمل الموسيقي، وان تكون هناك فرقة موسيقية دارسة، بحيث تعزف الموسيقى باتقان، وتستخدم جميع الآلات في عزفها، بعيدة عن آلة العود، التي أصبح يستخدمها العرب للتلحين.
تساءل الكثير من المثقفين وكتب الكثير من زملاء الحرف، عن مسألة اداء بعض الاشقاء من الفنانين العرب لأغانٍ يمنية، دون الاشارة الى مصدرها،.. فكيف تنظرون الى هذه المسألة استاذ محمد؟
تطرقت الى هذه المسألة في مقابلة أجرتها معي قناة الجزيرة القطرية، وقلت فيها «اننا عرب نسمح لاخواننا الفنانين في الوطن العربي ان يأخذوا من التراث اليمني ما يشاؤون، فالتراث العربي هو ملك للأمة العربية، واخواننا في الخليج - وللأسف الشديد - لا يذكرون او يشيرون ان هذه الموسيقى من التراث اليمني.
فاللحن اليمني له ايقاعات معروفة، وهذه الايقاعات التي تمارس لدى بعض الفنانين الاشقاء في الخليج، وهي ايقاعات يمنية، ولا يستطيع احد منهم أن ينكرها، «فمن حقهم أن يأخذوا من هذا التراث، لأنه لا تراث لهم».. وبلادنا غزيرة بالتراث الموسيقي المتنوع.
واين تراثنا هذا.. لماذا لا يتم تجميعه؟
على فكرة نحن لم نسمع عن تراثنا حتى نصفه، لان الجهات المعنية ترفض ان تجمع التراث الموسيقي، ولا اعرف حتى اللحظة لماذا يصر البعض بعدم جمع التراث الموسيقي في بلادنا.. والمؤلم الاكثر ان معظم من يحفظون به انتقلوا الى الدار الآخرة.
قيل ان محمد مرشد ناجي كان فنان سلطة؟
اعتدل «ابو علي» في جلسته وتساءل: «انا اغني للسلطة؟» ابداً بل كانوا خصومي.. واطلق قهقهة واردف قائلاً: اي واحد حكم الجنوب قبل الوحدة اليمنية كان يرى انني خصمه.
حتى الرئيس السابق سالمين - رحمه الله - والحديث للمرشدي.. كان من اعز اصدقائي، وقبل ان يصل الى كرسي السلطة كانت تجمعني به جلسات يومية، وكنا نلعب الكرة معاً، لكن بعد وصوله الى كرسي السلطة.. أوشي إليه البعض ممن حوله ان «المرشدي» متمرد، والا لماذا لا يغني لك؟ وكلام من هذا ونسي - رحمه الله - ما كان بيننا من ود.. ومع هذا وذاك كنت دائماً أذكره بخير، وأشيد به كلما سنحت الفرصة لذلك.
الجيل الفني الذي ظهر بعد جيلكم الذهبي (أنت واحمد بن احمد قاسم، محمد سعد عبدالله، الزيدي، خليل محمد خليل، وغيركم) لم يكن بذلك المستوى من الإبداع والتألق، الذي قدمتموه مع ان ظروفكم كانت اصعب، لماذا؟
نحن جئنا في ظروف تجبرك على خلق اغنية لهذه المدينة (عدن) وكانت تسمى بالاغنية العدنية حتى اليوم ولكن المتشبثين بها لا يعرفون عن الاغنية اليمنية عموماً والجنوبية خصوصاً شيئاً، لذا المستمع المحلي لا يعرفهم، لان الاغنية اذا لم تهز الجدار فما فيش فائدة».
وهذه اجابة على سؤالكم الثالث عن الأغنية العدنية، فهي انتشرت في أواخر منتصف الخمسينات، عندما أنشأ الاستعمار البريطاني اذاعة عدن في اغسطس 54م (خلال اسبوع واحد) وكان لابد من ازدياد عدد الأغاني العدنية بموسيقى أفضل.
ويصعب الوقوف على عدد وأسماء الأغاني العاطفية والوطنية التي غناها المرشدي ونالت شهرة واسعة.. لكننا وفي معرض حديثنا عن هذا الفنان الشامخ اطال الله في عمره ارتأينا أن نكشف بعض أسرار أغنيته الشهيرة “نشوان” التي يبتهج لها البعض ويراها البعض الآخر مصدر حساسية.
يقول المرشدي عن حكايته مع نشوان:
في العام 79م بدأت مفارقات على حدود شطري الوطن واستمرت في التصاعد إلى درجة خطيرة، ودعيت في ليلة رمضانية إلى منزل الأخ علي ناصر محمد ـ رئيس الوزراء وبحضور مجموعة من القيادات السياسية والشاعر الملحن حسين المحضار والفنان عبدالرحمن الحداد، قال الحاضرون: سمعنا أن لديك أغنية بعنوان "نشوان" نود سماعها وقلت: هذه أغنية رفضت كلماتها عام 77م من قبل القيادة، قالوا: نسمعها الليلة وفهمت واسمعتهم، فقال العميد علي أحمد ناصر عنتر: يا بن مرشد هذه الأغنية بمائة خطبة، وغداً تسجلها للإذاعة ولم يكن هناك أي ملاحظة على القصيدة لأن الحاضرين ما كانوا على علم بأسباب رفض القصيدة في العهد السابق سوى الرئيس سالمين وصاحبه عبدالفتاح إسماعيل.
وأقول إن هذه القصيدة التي كتبها الشاعر سلطان الصريمي ووجدتها منشورة في أحد أعداد مجلة الحكمة كانت قصيدة جريئة في تناولها لقضايا الأرض وهموم الإنسان اليمني في المناطق الشمالية وتمجد ما يجري من تحولات اقتصادية ووطنية في المناطق الجنوبية، وقد قرأت هذه القصيدة على الشاعر القرشي عبدالرحيم سلام بعد أن اخترتها لتقديمها كأغنية تعالج قضية الإنسان اليمني بشكل عام بأسلوب “المرمزه” الشفافة فقال خيراً ما اخترت ثم أطلعته على نيتي في إضافة بيت هاجم السلطة في الجنوب.. وأقصد بذلك الرئيس سالمين وجماعته وليس القيادة السياسية التي ما كان لها حول ولا قوة في الحكم، فقال القرشي: افعل ما بدالك .. وحانت حفلات اكتوبر 77م وكان أول من عرضت عليه قصيدة نشوان الصديق طه غانم، فقال: أبو علي هذا غير معقول! وأثناء حديثنا أقبل رئيس لجنة الاحتفالات الأخ سالم باجميل وكان صديقاً للرئيس سالمين وسألني بعد أن قرأ مطالع القصيدة أتريد أن تقدم هذه القصيدة؟ قلت نعم وماذا فيها؟ قال وماذا تعني بالعصابة؟ قلت: لست ما أعني أنا وإنما الشاعر قال: سأريها “الشيبة” ويعني الرئيس سالمين والأمين العام عبدالفتاح اسماعيل لمعرفته باللهجة ورفضت القصيدة وألغيت مشاركتي في الحفل.
المهم أنه بعد إجازة هذه الأغنية تم تسجيلها على العود عصر اليوم التالي ولم اندهش من ذكاء القيادة السياسية عندما ظلت الإذاعة تذيع إعلانات بين وقت وآخر من صبيحة اليوم الثاني تلفت انتباه المستمعين إلى إذاعة أغنية جديدة بعنوان نشوان في الخامسة بعد الظهر، الأمر الذي جعل المواطنين في الساحة اليمنية والجزيرة والاستريوهات في قمة الشوق لسماعها واذيعت الأغنية في موعدها.. ما أستطيع قوله أنها تعرضت إلى تحريم سماعها في المناطق الشمالية والجزيرة ولو سجلت إذاعة صنعاء الأغنية وقت إذاعتها من عدن لفسدت الأغنية وجعلت المستمع يفكر في كلمات الأغنية على أنها لا تهاجم صنعاء وحسب ولكن.. كما سرت إشاعة بعد ذلك بأن الشاعر سلطان الصريمي الذي كان وقتها يقيم في الحديدة قد رحل إلى صنعاء للاعتقال وهو ما يؤكد خطورة الأغنية الناجحة والتأثير الوارد فعاليته في الجماهير.. وقصيدة الشاعر سلطان الصريمي “نشوان” عندما نشرت في مجلة الحكمة اليمانية في عهد الرئيس الحمدي لم تنزعج منها الدوائر الحكومية المختصة لسبب بسيط هو أنها كانت خارج دائرة التأثير والفعل الجماهيري، ولكن عندما طارت على أجنحة نغم دخلت ضمن مكونات الذوق والإحساس الشعبي وهنا أحست الجهات المختصة بالخطورة وأعماها الغضب فلم تتفحص مضمون القصيدة ولا زمن كتابتها فداهمت الشاعر في مأمنه وهو لا يعلم من الأمر شيئاً.
واختتم الحديث بالقول: إن الصدق الفني في أغنية نشوان في عناصرها الثلاثة أعطاها الانتشار الواسع ليس في اليمن فحسب وإنما الجزيرة وعموم الخليج العربي والمنظمات الوطنية العربية على الرغم من لهجتها الكلامية لمنطقة معافر اليمنية وما تحمله في طياتها من مفردات “مرمزة” قد يصعب فهمها حتى على البعض من أهل المنطقة نفسها، وأقول هذا الكلام لمن أتعبوا الشعر والغناء في البحث عن التمجيد الاجوف للإنجازات العادية التي هي من صميم واجبات الدولة أو الفردية القيادية وأتعبوهما على الوجه الآخر في كتابة الملاحم الصغيرة والاوبريتات غير الدقيقة فنياً تحت دعاوي الأعمال الثورية والوطنية وصرفوا في سبيل ذلك مبالغ طائلة والناتج أن المواطن اليمني المقصود بكل هذه الأعمال، دعك عن غيره، لم يحس بها إطلاقاً لتجردها من الصدق في حياته السياسية والاجتماعية وبالتالي يأتي الخلق الفني باهتاً ولا يمتزج مع الوجدان الجماهيري. كما أن الفنان المرشدي كانت له صلته بالقيادات السياسية، فقد كان على صلة بعبدالفتاح اسماعيل الذي غنى له قصيدة “تاج النهار”.
يعد الفنان الكبير محمد مرشد ناجي واحدا من أهم دعائم "الغناء التجديدي الحديث"، بالإضافة لدوره البارز والهام والمؤثر بتقديم الموروث والفلكلور الغنائي اليمني بكل تلاوينه وإيقاعاته المختلفة والمتعددة بأسلوب رائع أخّإذ ومقدرة فائقة أعادت إليه الروح والحياة بعد حالة الإهمال والنسيان ولعل "المرشدي" من الفنانين القلائل الذين تمكنوا ببراعة من تقديم عطاءات ونتاجات إبداعية استندت على محاكاة التراث اليمني برؤيته المستقلة وبمنظوره ومنهاجه ومدرسته المتميزة معتمدا بذلك على جمال وعذوبة ورقة "صوته الذهبي" وسلاسة وسلامة مخارج الألفاظ والقدرة الهائلة على التغيير والتنويع بخلق جمل موسيقية ومقامات لحنيه وإيقاعات يمنية مصحوبة بثراء في العاطفة والشجن المتدفق المرتبط بجذور وأصول التربة اليمنية المعطاة،
المرشدي سيرة عطرة
ولأن الحديث عن الفنان والشاعر والملحن االراحل المرشدي حديث ذو شجون ليس هنا متسع له فقد حاولنا ومن خلال لقاء مطول مع الفنان الكبير اجريناه مع الفنان الراحل في منزله بحي ريمي بمدينة المنصور اقتفاء بعض آثار حياته منذ الولادة وحتى زمن نشوان، معترفين بأن ما لم نأت به في هذا الحديث هو الشيء الأجزل في حياة فنان يشارف على عقده الثامن ومازال فيه من روح وإبداع الشباب ما يجعلنا نتمنى عليه أن يمنحنا من عطائه الفني وإبداعه الراقي ما يمنحنا أكبر التفاؤل بأننا مازلنا نحيا في وطن فيه من العباقرة ولو شخص واحد..
الميلاد
يقول الفنان القدير محمد مرشد ناجي: أنا من مواليد 4 جمادى الآخرة 1348هـ الموافق 6 نوفمبر 1929م في مدينة الشيخ عثمان من أم صومالية الأصل واسمها عورلاعبدي وفرعها الصومالي كما يقال عريق وأصيل، إذ إنها من قبيلة يقال إن جذورها عربية وتدعى مجيرتين .. لم تعلمنا أمي - أنا وإخوتي - اللغة الصومالية وكانت حتى إذا تحدث إليها نساء أو رجال من الصومال ترد عليهم بلغة مختلطة من العربية والصومالية، أما أبي فيعود إلى منطقة معافر “الشويفة” قال إنه ترك قريته هرباً من عذاب الإمامة وذلك في أثناء الحرب العظمى “1914ـ 1918م”.
ويستعرض المرشدي بدايته مع الغناء بالقول: بدأت من البيت متأثراً بأبي الذي كان يتمتع بصوت جميل ولا يمر يوم دون أن يغني بمهاجل القرية وغنائها الشعبي ـ وظلت عادة الغناء اليومية ملازمة له حتى آخر عمره وقد وجدت نفسي مشدوداً إليه، اصغي إليه باهتمام، كما كان أخي الأكبر أحمد من أمي مولعاً بالعزف على آلة السمسمية ويكاد يكون الأول في العزف على هذه الآلة الشعبية.
إلى جانب ذلك كنت استمع إلى الاسطوانات الشمعية لأغاني المطربين المحليين والعرب، فضلاً عن الحضور الدائم في حفلات الأعراس من الاستماع إلى المطربين الذين يحيون تلك الحفلات والتعرف على أشخاصهم.
أما بداية ممارستي للغناء فقد كانت في المرحلة الابتدائية، حيث كان في مدرستنا استاذ لطيف وفنان هو الأستاذ أحمد حسن عبداللطيف الذي اكتشف حبي للغناء وشجعني على أداء الأناشيد والأغنية المحلية عندما كنت أزوره في البيت كما كنت أصعد مع بعض الزملاء منارة مسجد الهاشمي في كل يوم جمعة قبل الأذان لنؤدي التذكير وهي أناشيد دينية كان يطلقها الفتيان عادة من فوق منارات جميع المساجد في ذلك الوقت كلها صلوات وتسليمات على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبدأ هكذاً:
الصلاة والسلام عليك ياسيدي يارسول الله وعليك صلى الله.
وكانت أول مرة أغني فيها على مستوى عام هي عندما حضرت حفل عرس في شارعنا وتعالت الأصوات من الجيران الذين كانوا يسمعونني أغني وغنيت أغنية كانت تستهويني وقتذاك “ بن هرهرة قال سالت دمعتي من عيوني، ولكثرة حفلات الأعراس كانت الحال تتكرار إذا ما حضرت ويعزف لي المطرب لحن الأغنية بين اعجاب الحاضرين وتشجيعهم لي..
واستمر الحال كذلك إلى أن جمعتني الصدفة مع الصديق الشاعر المرحوم أدريس أحمد حنبلة الذي اقترح عليّّ الانضمام إلى ندوة الموسيقى العدنية التي كان هو عضواً فيها، وفي تلك الفترة كانت تلك الندوة حديث الصحافة المحلية لأسلوبي الغنائي المتجدد المسمى وقتها بالأغنية العدنية ومحاولتها الخروج بالأغنية من الجمود الذي اعتراها بعد وفاة القمندان في لحج.
وفي يوم زياراتي للندوة غنيت من محفوظاتي بعض الأغاني المحلية والمصرية وتتابعت زياراتي لمقر الندوة في اللقاء الأسبوعي، ونتيجة لما لمست من الاهتمام من الندوة وعلى رأس الجميع الأستاذ الفنان خليل محمد خليل توطدت علاقتي مع الجميع كما كنت اقدم حينها عدداً من الأغاني في احتفالات نادي الشباب الثقافي اقدم خلالها الغناء المحلي القديم وأغاني خليل الجديدة والغناء المصري وهكذا..
مع التلحين
ويستعيد المرشدي ذكرياته مع 26 سبتمبر ويقول: لم يكن يخطر على بالي أن أجرب التلحين، لكن هذا الأمر أخذ يطرح علي وقد تكلم معي بهذا الشأن الصديق الشاعر المرحوم محمد سعيد جرادة وقال: أنا علي القصيدة وعليك اللحن، وكتب القصيدة في الحال وناولني إياها وكانت قصيدة “ وقفة” واعتبرت ذلك من الصديق الجرادة بمثابة تشجيع لصديق لا أكثر ولا أقل.
ويضيف المرشدي: طبيعي أن البداية في التلحين بالشعر الفصيح أمر له صعوبته البالغة ولكن اعجابي بالقصيدة هزم التهيب في نفسي وظللت أياماً أعيش مطلع القصيدة إلى أن يتسلل مفتاح اللحن وأمضيت بعده شهراً حتى اتممتها وحينما أسمعتُ الإخوان اللحن في النادي وفي مقدمتهم الشاعر محمد سعيد جرادة استحسنوه ثم اتبعته بلحنين من شعر الجرادة أيضاً “هجرت وابعدتني، وشبابك ندي ريان” والأخيرة كتبها بالعافية بعد جهد مضنٍ معه.
المرشدي في إذاعة عدن.. حيرة ما بعدها
يعتبر الفنان القدير محمد مرشد ناجي أن شهرته الحقيقية بدأت بعد تسجيله لعدد من الأغاني في إذاعة عدن، ويشير أن الإذاعة التي تأسست في اغسطس 54م قد قررت في مستهل عام 55م دعوة المطربين لتسجيل أغانيهم، ويقول المرشدي: لم يكن في تقديري ان التسجيل للإذاعة سيدخلني في طور لم يكن في حسباني .. كانت المسألة في البداية من قبيل الهواية والترفيه سجلت وسجل غيري وكان مدير الإذاعة توفيق ايراني يضع أمامنا ساعة أثناء التسجيل ويقول سجل لمدة نصف ساعة والمقابل ثمانين شلناً وكنت أحتال عليه بتسجيل اغنيتين وبينهما تقاسيم لا معنى لها إلى جانب التكرار الممل لمقاطع الأغنية لكن الإذاعة كشيء جديد على الناس نالت أغانيها اعجابهم وما نالته هذه الأغاني من شهرة لدى المستمعين سجلتني كمطرب وطوقتني بمسئوليات ما كانت تخطر على البال.. واعتبرت أنني قد ضقت ذرعاً بهذا الوضع الجديد الذي أمسك بخناقي وأدخلني في مازق يصعب الفكاك منه، وقضية احتراف الغناء قضية مرفوضة من أساسها ولكن بعد شهرتي الواسعة من قبل الإذاعة وقعت في الممارسة الاحترافية، بدون مقابل، وإنما كنت أجهد نفسي دون طائل من أجل حب الناس ووقعت في حيرة ما بعدها حيرة.
مع الأغنية الوطنية
ـ وإذا كانت إذاعة عدن قد وضعت الفنان المرشدي في حيرة ما بعدها حيرة لما منحته من شهرة ومعجبين وأجبرته على احتراف الغناء فإن منعطفاً فنياً آخر قد حدث أثر على نوعية الغناء الذي كان يؤديه.. وتمثل هذا المنعطف بقرار نادي الشباب الثقافي الذي كان عضواً فيه إقامة حفلة موسيقية تكون مدفوعة الدخول لمواجهة الضائقة المالية التي كان النادي يمر بها وذلك في مدينة الشيخ عثمان ويحيي هذه الحفلة الفنانين محمد مرشد ناجي وأحمد قاسم.. ويقول المرشدي: حاولت التخلص من هذه المهمة لكنهم اقنعوني بأسلوب تحريضي بضرورة دور الغناء في تدعيم المنظمات الوطنية.. ولم يدر بخلدي كما حدث مع الإذاعة أن هذه الحفلة ستدخلني في منعطف آخر مع الجماهير وفي منافسة فنية ومواقف لا نهاية لها وبنجاحها فتح الباب لحفلات فنية لا أول لها ولا آخر.
ويتذكر المرشدي: وفي هذه الحفلة قدمت لأول مرة أغنية وطنية بعنوان “ياظالم” من كلمات الأستاذ المرحوم عبدالله هادي سبيت وكنت أول من دخل هذا الميدان، ميدان الأغنية الوطنية، ولم يكن في تصويري أنني بهذه المبادرة ادخل منعطفاً جديداً وأصبحت الجماهير تطلب مني نشيداً وطنياً في كل حفلة، كما كان يطلب مني ذلك في “المقايل” بسبب الزخم الوطني الذي كان سائداً في مستعمرة عدن.
تمسك بالوطن
كان الفنان الكبير محمد مرشد ناجي خلال حياته الفنية الحافلة واحداً من رواد الأغنية، واستطاع بما قدم من أعمال وطنية وعاطفية رائعة ان يأخذ بألباب الجماهير التي عشقت فنه بل وحفظت معظم أغانيه.. ورغم حالات الشد والجذب التي عاشها المرشدي في علاقاته مع صناع القرار السياسي في عدن عقب الاستقلال عن الحكم البريطاني إلا ان ما يحسب لهذا الفنان أنه ظل متمسكاً بوطنه رافضاً اغراءات عديدة عرضت عليه في عدد من دول الخليج بل إنه رفض اغراءات أخرى قدمت إليه في سبيل ان يحظى منه بعض زعامات المنطقة بأغاني مديح، وذلك لكونه يؤمن ان الفنان ينبغي ان يظل أسمى من رماد الفلوس.
في وقت سابق حاورت 26سبتمبر الراحل الكبير وحين كنا نحاوره تذكرناه وهو يؤدي أغنيته التي يقول فيها «عاده لا دول بيض» ويقصد بها هنا ان القطن كلما ازداد عمراً ازداد لمعاناً طرق المرشدي يومها مواضيع جريئة وربما لاول مرة، سواء عن الموسيقى الصنعانية او لعلاقته بقيادات الجنوب آنذاك، او عن الفنانين الخليجيين، الذين لا تراث لهم - كما يقول «أبو علي
سألناه لماذا لماذا لم تعد الموسيقى اليمنية، بتلك القوة التي كانت عليها قبل اكثر من 30 عاما، سواء في عدن او صنعاء ؟فقال:
لا افشي سراً ان قلت ان قضية الموسيقى في اليمن قبل العام 60م (صفر)، فلا يوجد احد يعزف بإجادة، ولا توجد آلة معينة يعزف عليها شخص بإجادة، أما الموجود فهي خربشة في خربشة، وعندما جاءت الثورة، واستمرت لم تهتم بالاقتصاد أو بالموسيقى وهذا طبيعي ولا احد يستطيع ان يأخذ على النظام آنذاك اوجه القصور، فالثورة ظلت تقاتل طيلة سبع سنوات ليس كالذي حصل في مصر عندما تخلصت من الملكية فيها وهمه الثوري اكبر من الموسيقى او ارساء اسس للثقافة، وسيأتي ذلك لاحقاً.
ويواصل «المرشدي» قائلاً: بالرغم من دخول التكنولوجيا من تلفاز واذاعة الى بلادنا، الا ان آلة العود ما تزال متواجدة الى يومنا هذا.
وللاسف هذا تخلف كبير.. ومحل تقدير مرير من جانب اخواننا في دول الجزيرة والخليج.. ودائماً ما يقولون «ما لهم اليمنيين محلك سر».. ما زالوا يستخدمون العود، ولا توجد نظم او غير ذلك ولا زالت الامور كما هي.. فالفنان في صنعاء لا يزال يستخدم العود فقط.
ولاحظ ان نصف الاغاني التي تبث عبر الفضائية اليمنية وهي وسيلة اعلامية عالمية - ان آلة العود ما زالت قائمة فيها.
قلنا في صنعاء..الناس تحب ان تسمع الاغنية على آلة العود؟
قال :هذا غير صحيح.. فالاغنية التي لا بد ان يقدمها الفنان بالعود، معروفة وقليلة جداً.. وهي في الناحيتين الفلوكلورية والتراثية، لكن في الاغنية الحديثة - ايضاً - لا يزال العود هو قائماً، وهذا ايضاً رد على احد اسئلتك التي تقول: لماذا لا تنتشر الأغنية اليمنية على الساحة الفنية العربية.
مرة اخرى.. اقول الناس في صنعاء لا تستطيع ان تسمع الاغنية الصنعانية الا بالعود؟
وانا استطعت ان اقدم عملاً مع الفنان الشهير محمد عبده.. وهو عبارة عن اغنية «صنعانية» بالموسيقى، ولان الاستاذ محمد عبده فنان يمتلك فرقة موسيقية تتحرك بامره وهي فرقة تلقت تعليم موسيقي متقدم - فاقترحت عليه هذا العمل، فوافق وعملناه.. وقدم للمتلقي في بلادنا، والذي اشاد به اخواننا في المجالس الصنعانية لعلية القوم في صنعاء لانها كبيرة وخطيرة جداً فالمجالس تجمع المثقفين والمتعلمين والرجال المحترمين، ومن يداوم على التواجد فيها خلال سنة او سنتين يزداد اطلاعاً وثقافة، فالآراء التي تخرج منها، يتبعها معظم الناس.
وفي احدى زيارات الفنان محمد عبده لصنعاء في فترة سابقة قال اعتبر زيارتي هذه فتحاً موسيقياً جديداً لي.
لماذا؟
لانه اطلع على الذوق في بلادنا، فاقام اكثر من حفلة فيها، وشعر بفرحة غامرة بانه استطاع ان يجذب الاذن اليمنية اليه، واستطاع ان يستقطب معظم -إن لم نقل جميع- المغتربين اليمنيين المتواجدين في المملكة العربية السعودية الى صفه من خلال اغنية جل من نفس الصباح فالمتلقي - والكلام للمرشدي - عندما يكذب هؤلاء الناس الذين يقولون ان الاغنية الصنعانية لا نتذوقها الا مع العود فالاغنية الصنعانية هي اعظم اغنية في بلادنا، واي شعب عربي يتمنى ان تكون معه اغنية كالتي تسمى بالاغنية الصنعانية، واقول ما تسمى بالاغنية الصنعانية، فهي فن جميل وراق جداً.. واستطاع اخواننا المصريون حالياً ان يعزفوها بسهولة، وهو دليل انها صالحة بشكل كبير للموسيقى.
ما هي الحلول والمخارج لكي تتقدم الاغنية في بلادنا خطوات الى الامام؟
لابد ان تتحمل الدولة مسؤوليتها في سن القوانين والتشريعات التي يجب ان يتبعها الجميع في العمل الموسيقي، وان تكون هناك فرقة موسيقية دارسة، بحيث تعزف الموسيقى باتقان، وتستخدم جميع الآلات في عزفها، بعيدة عن آلة العود، التي أصبح يستخدمها العرب للتلحين.
تساءل الكثير من المثقفين وكتب الكثير من زملاء الحرف، عن مسألة اداء بعض الاشقاء من الفنانين العرب لأغانٍ يمنية، دون الاشارة الى مصدرها،.. فكيف تنظرون الى هذه المسألة استاذ محمد؟
تطرقت الى هذه المسألة في مقابلة أجرتها معي قناة الجزيرة القطرية، وقلت فيها «اننا عرب نسمح لاخواننا الفنانين في الوطن العربي ان يأخذوا من التراث اليمني ما يشاؤون، فالتراث العربي هو ملك للأمة العربية، واخواننا في الخليج - وللأسف الشديد - لا يذكرون او يشيرون ان هذه الموسيقى من التراث اليمني.
فاللحن اليمني له ايقاعات معروفة، وهذه الايقاعات التي تمارس لدى بعض الفنانين الاشقاء في الخليج، وهي ايقاعات يمنية، ولا يستطيع احد منهم أن ينكرها، «فمن حقهم أن يأخذوا من هذا التراث، لأنه لا تراث لهم».. وبلادنا غزيرة بالتراث الموسيقي المتنوع.
واين تراثنا هذا.. لماذا لا يتم تجميعه؟
على فكرة نحن لم نسمع عن تراثنا حتى نصفه، لان الجهات المعنية ترفض ان تجمع التراث الموسيقي، ولا اعرف حتى اللحظة لماذا يصر البعض بعدم جمع التراث الموسيقي في بلادنا.. والمؤلم الاكثر ان معظم من يحفظون به انتقلوا الى الدار الآخرة.
قيل ان محمد مرشد ناجي كان فنان سلطة؟
اعتدل «ابو علي» في جلسته وتساءل: «انا اغني للسلطة؟» ابداً بل كانوا خصومي.. واطلق قهقهة واردف قائلاً: اي واحد حكم الجنوب قبل الوحدة اليمنية كان يرى انني خصمه.
حتى الرئيس السابق سالمين - رحمه الله - والحديث للمرشدي.. كان من اعز اصدقائي، وقبل ان يصل الى كرسي السلطة كانت تجمعني به جلسات يومية، وكنا نلعب الكرة معاً، لكن بعد وصوله الى كرسي السلطة.. أوشي إليه البعض ممن حوله ان «المرشدي» متمرد، والا لماذا لا يغني لك؟ وكلام من هذا ونسي - رحمه الله - ما كان بيننا من ود.. ومع هذا وذاك كنت دائماً أذكره بخير، وأشيد به كلما سنحت الفرصة لذلك.
الجيل الفني الذي ظهر بعد جيلكم الذهبي (أنت واحمد بن احمد قاسم، محمد سعد عبدالله، الزيدي، خليل محمد خليل، وغيركم) لم يكن بذلك المستوى من الإبداع والتألق، الذي قدمتموه مع ان ظروفكم كانت اصعب، لماذا؟
نحن جئنا في ظروف تجبرك على خلق اغنية لهذه المدينة (عدن) وكانت تسمى بالاغنية العدنية حتى اليوم ولكن المتشبثين بها لا يعرفون عن الاغنية اليمنية عموماً والجنوبية خصوصاً شيئاً، لذا المستمع المحلي لا يعرفهم، لان الاغنية اذا لم تهز الجدار فما فيش فائدة».
وهذه اجابة على سؤالكم الثالث عن الأغنية العدنية، فهي انتشرت في أواخر منتصف الخمسينات، عندما أنشأ الاستعمار البريطاني اذاعة عدن في اغسطس 54م (خلال اسبوع واحد) وكان لابد من ازدياد عدد الأغاني العدنية بموسيقى أفضل.
ويصعب الوقوف على عدد وأسماء الأغاني العاطفية والوطنية التي غناها المرشدي ونالت شهرة واسعة.. لكننا وفي معرض حديثنا عن هذا الفنان الشامخ اطال الله في عمره ارتأينا أن نكشف بعض أسرار أغنيته الشهيرة “نشوان” التي يبتهج لها البعض ويراها البعض الآخر مصدر حساسية.
يقول المرشدي عن حكايته مع نشوان:
في العام 79م بدأت مفارقات على حدود شطري الوطن واستمرت في التصاعد إلى درجة خطيرة، ودعيت في ليلة رمضانية إلى منزل الأخ علي ناصر محمد ـ رئيس الوزراء وبحضور مجموعة من القيادات السياسية والشاعر الملحن حسين المحضار والفنان عبدالرحمن الحداد، قال الحاضرون: سمعنا أن لديك أغنية بعنوان "نشوان" نود سماعها وقلت: هذه أغنية رفضت كلماتها عام 77م من قبل القيادة، قالوا: نسمعها الليلة وفهمت واسمعتهم، فقال العميد علي أحمد ناصر عنتر: يا بن مرشد هذه الأغنية بمائة خطبة، وغداً تسجلها للإذاعة ولم يكن هناك أي ملاحظة على القصيدة لأن الحاضرين ما كانوا على علم بأسباب رفض القصيدة في العهد السابق سوى الرئيس سالمين وصاحبه عبدالفتاح إسماعيل.
وأقول إن هذه القصيدة التي كتبها الشاعر سلطان الصريمي ووجدتها منشورة في أحد أعداد مجلة الحكمة كانت قصيدة جريئة في تناولها لقضايا الأرض وهموم الإنسان اليمني في المناطق الشمالية وتمجد ما يجري من تحولات اقتصادية ووطنية في المناطق الجنوبية، وقد قرأت هذه القصيدة على الشاعر القرشي عبدالرحيم سلام بعد أن اخترتها لتقديمها كأغنية تعالج قضية الإنسان اليمني بشكل عام بأسلوب “المرمزه” الشفافة فقال خيراً ما اخترت ثم أطلعته على نيتي في إضافة بيت هاجم السلطة في الجنوب.. وأقصد بذلك الرئيس سالمين وجماعته وليس القيادة السياسية التي ما كان لها حول ولا قوة في الحكم، فقال القرشي: افعل ما بدالك .. وحانت حفلات اكتوبر 77م وكان أول من عرضت عليه قصيدة نشوان الصديق طه غانم، فقال: أبو علي هذا غير معقول! وأثناء حديثنا أقبل رئيس لجنة الاحتفالات الأخ سالم باجميل وكان صديقاً للرئيس سالمين وسألني بعد أن قرأ مطالع القصيدة أتريد أن تقدم هذه القصيدة؟ قلت نعم وماذا فيها؟ قال وماذا تعني بالعصابة؟ قلت: لست ما أعني أنا وإنما الشاعر قال: سأريها “الشيبة” ويعني الرئيس سالمين والأمين العام عبدالفتاح اسماعيل لمعرفته باللهجة ورفضت القصيدة وألغيت مشاركتي في الحفل.
المهم أنه بعد إجازة هذه الأغنية تم تسجيلها على العود عصر اليوم التالي ولم اندهش من ذكاء القيادة السياسية عندما ظلت الإذاعة تذيع إعلانات بين وقت وآخر من صبيحة اليوم الثاني تلفت انتباه المستمعين إلى إذاعة أغنية جديدة بعنوان نشوان في الخامسة بعد الظهر، الأمر الذي جعل المواطنين في الساحة اليمنية والجزيرة والاستريوهات في قمة الشوق لسماعها واذيعت الأغنية في موعدها.. ما أستطيع قوله أنها تعرضت إلى تحريم سماعها في المناطق الشمالية والجزيرة ولو سجلت إذاعة صنعاء الأغنية وقت إذاعتها من عدن لفسدت الأغنية وجعلت المستمع يفكر في كلمات الأغنية على أنها لا تهاجم صنعاء وحسب ولكن.. كما سرت إشاعة بعد ذلك بأن الشاعر سلطان الصريمي الذي كان وقتها يقيم في الحديدة قد رحل إلى صنعاء للاعتقال وهو ما يؤكد خطورة الأغنية الناجحة والتأثير الوارد فعاليته في الجماهير.. وقصيدة الشاعر سلطان الصريمي “نشوان” عندما نشرت في مجلة الحكمة اليمانية في عهد الرئيس الحمدي لم تنزعج منها الدوائر الحكومية المختصة لسبب بسيط هو أنها كانت خارج دائرة التأثير والفعل الجماهيري، ولكن عندما طارت على أجنحة نغم دخلت ضمن مكونات الذوق والإحساس الشعبي وهنا أحست الجهات المختصة بالخطورة وأعماها الغضب فلم تتفحص مضمون القصيدة ولا زمن كتابتها فداهمت الشاعر في مأمنه وهو لا يعلم من الأمر شيئاً.
واختتم الحديث بالقول: إن الصدق الفني في أغنية نشوان في عناصرها الثلاثة أعطاها الانتشار الواسع ليس في اليمن فحسب وإنما الجزيرة وعموم الخليج العربي والمنظمات الوطنية العربية على الرغم من لهجتها الكلامية لمنطقة معافر اليمنية وما تحمله في طياتها من مفردات “مرمزة” قد يصعب فهمها حتى على البعض من أهل المنطقة نفسها، وأقول هذا الكلام لمن أتعبوا الشعر والغناء في البحث عن التمجيد الاجوف للإنجازات العادية التي هي من صميم واجبات الدولة أو الفردية القيادية وأتعبوهما على الوجه الآخر في كتابة الملاحم الصغيرة والاوبريتات غير الدقيقة فنياً تحت دعاوي الأعمال الثورية والوطنية وصرفوا في سبيل ذلك مبالغ طائلة والناتج أن المواطن اليمني المقصود بكل هذه الأعمال، دعك عن غيره، لم يحس بها إطلاقاً لتجردها من الصدق في حياته السياسية والاجتماعية وبالتالي يأتي الخلق الفني باهتاً ولا يمتزج مع الوجدان الجماهيري. كما أن الفنان المرشدي كانت له صلته بالقيادات السياسية، فقد كان على صلة بعبدالفتاح اسماعيل الذي غنى له قصيدة “تاج النهار”.