دشنت إثيوبيا رسمياً أكبر مشروع كهرومائي في أفريقيا، محققة حلماً تنموياً طال انتظاره لأكثر من عقد، وسط احتفالات ضخمة شهدتها منطقة بني شنقول في التاسع من سبتمبر. بسعة تخزينية تبلغ 74 مليار متر مكعب من المياه، يمثل هذا الرقم الضخم نقطة تحول جذرية في ميزان القوى المائية بحوض النيل، مغيراً قواعد لعبة استمرت لعقود.
هذه الكمية الهائلة من المياه المحتجزة خلف السد الإثيوبي تعادل تقريباً حصة مصر السنوية من مياه النيل لمدة عام ونصف كامل. بارتفاع 145 متراً وعرض 1.8 كيلومتر، تحول المشروع إلى رمز للقوة والاستقلالية في نظر الإثيوبيين، بينما يثير مخاوف عميقة لدى جيرانهم في المصب.

أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد خلال الحفل أن سدّ النهضة الإثيوبي الكبير يمثل "إنجازاً عظيماً ليس فقط لإثيوبيا، بل لكل الأفارقة"، موجهاً رسالة مباشرة إلى دول الجوار بأن المشروع "لن يؤثر على الإطلاق على تنميتكم". هذه التصريحات جاءت في ظل غياب ملحوظ لممثلي مصر والسودان عن الحفل، رغم الدعوة الموجهة إليهما.
تكمن القوة الحقيقية للسد في قدرته على إنتاج 6450 ميغاواط من الكهرباء، مما يعني مضاعفة إنتاج إثيوبيا الحالي من الطاقة. هذا الرقم ليس مجرد إحصائية، بل يعني إمكانية إيصال الكهرباء لأول مرة إلى ملايين الإثيوبيين الذين يعيشون في ظلام دامس، حيث لا يحصل سوى 45% من سكان البلاد على الكهرباء حالياً.
البعد الاقتصادي للمشروع يتجاوز مجرد توليد الطاقة، إذ تتوقع الحكومة الإثيوبية تحقيق إيرادات سنوية تصل إلى مليار دولار من بيع الكهرباء لدول الجوار. هذه عوائد مالية ضخمة ستُستثمر، وفقاً لتصريحات آبي أحمد، في "مشاريع أخرى مثل مشروع سد النهضة الكبير خلال السنوات الخمس أو العشر أو الـ15 المقبلة".
شارك في حفل التدشين قادة من دول إفريقية عديدة، منهم رؤساء جيبوتي وجنوب السودان والصومال وكينيا، في رسالة واضحة حول الدعم الإقليمي للمشروع. حضر الاحتفال أيضاً رئيس وزراء بربادوس ورئيس وزراء مملكة إيسواتيني، مما يعكس البعد الدولي للمناسبة.

من ناحية أخرى، تنظر مصر إلى هذه التطورات بقلق بالغ، فهي تعتمد على النيل بنسبة 97% من احتياجاتها المائية. مع نصيب فردي لا يتجاوز 500 متر مكعب سنوياً، تقع مصر تحت خط الفقر المائي، مما يجعل أي تغيير في تدفق المياه قضية وجودية.
أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في أغسطس الماضي أن "من يعتقد أن مصر ستغض الطرف عن تهديد أمنها المائي فهو مخطئ"، مؤكداً أن بلاده "ستتخذ التدابير المكفولة كافة بموجب القانون الدولي للحفاظ على مقدرات شعبنا الوجودية". هذا الموقف الحازم يعكس عمق المخاوف المصرية من تداعيات السد.
اضطرت مصر إلى اتخاذ إجراءات احترازية للتعامل مع التحديات المائية المتوقعة، منها تقليص مساحة زراعة الأرز من مليوني فدان إلى مليون فدان فقط، نظراً لاستهلاكه الكبير للمياه. كما شرعت في إعادة تدوير مياه الصرف الزراعي بحجم 21 مليار متر مكعب سنوياً، واستيراد منتجات زراعية بما يعادل 33 مليار متر مكعب من المياه الافتراضية.

رفضت مصر والسودان ما تصفانه بـالإجراءات الأحادية الإثيوبية، مطالبتين بضرورة التوصل لاتفاقات ملزمة حول تشغيل وملء السد. فشلت كل محاولات الوساطة التي قامت بها الولايات المتحدة والبنك الدولي وروسيا والإمارات والاتحاد الأفريقي في التوصل لحل توافقي.
يثير السد مخاوف سودانية أيضاً، حيث حذر وزير الري السوداني السابق ياسر عباس من أن الملء الأحادي قد يهدد نصف سكان وسط السودان ويقلص إنتاج سدود الروصيرص ومروي. السودان، رغم إمكانية استفادته من إدارة أفضل للفيضانات والحصول على طاقة رخيصة، يصر على ضرورة التنسيق المسبق.
التمويل الذاتي للمشروع يشكل مصدر فخر إضافي للإثيوبيين، حيث ساهم البنك المركزي الإثيوبي بـ91% من التكلفة البالغة 5 مليارات دولار، بينما ساهم المواطنون بـ9% عبر شراء السندات والتبرعات دون أي دعم خارجي. هذا النموذج التمويلي الفريد يدحض مزاعم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بأن الولايات المتحدة مولت السد.

بدأت إثيوبيا عام 2020 ملء الخزان على مراحل، مؤكدة أن السد لن يلحق ضرراً كبيراً بدول المصب. تشير أبحاث مستقلة إلى عدم تسجيل اضطرابات كبيرة في تدفق المياه حتى الآن، ويرجع ذلك جزئياً إلى وفرة الأمطار واتباع سياسة ملء حذرة.
الطموحات الإثيوبية لا تتوقف عند سد النهضة، بل تمتد لخطط توسيع صادرات الكهرباء إلى دول الجوار كالسودان وجيبوتي وكينيا، مع طموحات لبناء شبكة نقل تمتد عبر البحر الأحمر لبيع الطاقة إلى دول الشرق الأوسط. هذه الخطط الطموحة تضع إثيوبيا في موقع متقدم كمصدر إقليمي للطاقة.
يواجه سكان الأرياف في إثيوبيا تحدياً في الاستفادة الفورية من الطاقة الإضافية، إذ لا يتصل بالشبكة الوطنية سوى نحو نصفهم. هذا يتطلب استثمارات ضخمة في بناء شبكة نقل كهرباء تمتد عبر بلد مترامي الأطراف بتضاريس وعرة وجبلية.

يربط خبراء بين اكتمال سد النهضة ونهاية الاتفاقيات الاستعمارية التي ضمنت لمصر حصة الأسد من مياه النيل منذ عشرينيات القرن الماضي. هذا التحول يعكس تغيراً جذرياً في موازين القوى الإقليمية، حيث تستعرض إثيوبيا قوتها الجديدة بينما تواجه مصر تراجعاً في موقعها المميز.
ترتبط قضية السد بطموح إثيوبي أوسع للحصول على منفذ بحري، حيث صرح آبي أحمد مؤخراً أن التخلي عن البحر الأحمر كان "خطأ سيتم تصحيحه". هذا الطموح يضيف بعداً جيوسياسياً جديداً للتوترات الإقليمية، خاصة مع إريتريا والصومال.
مع بدء عصر جديد من الهيمنة الإثيوبية على مصادر المياه، تبرز تساؤلات حول قدرة البلدان المتشاركة في حوض النيل على إيجاد صيغة تعاون تضمن حقوق الجميع. هذه الكمية الضخمة من المياه البالغة 74 مليار متر مكعب لم تعد مجرد رقم، بل رمز لتحول جذري في خريطة القوى الإقليمية وإدارة الموارد المائية المشتركة في القرن الحادي والعشرين.