تعيش اليمن مفارقة مناخية قاسية تحول دون استغلال إمكاناتها الزراعية بالكامل، حيث تشير أحدث البيانات الأممية إلى أن 42.8% فقط من الأراضي الزراعية في البلاد مزروعة حالياً، في وقت تواجه فيه البلاد تهديداً مزدوجاً بحدوث فيضانات مدمرة في مناطق وجفاف حاد في مناطق أخرى خلال الفترة نفسها.
أصدرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) تحذيراً عاجلاً من احتمالية تعرض اليمن لفيضانات واسعة النطاق خلال موسم الأمطار الجاري، بينما تعاني مناطق أخرى من البلاد من موجات جفاف شديدة تهدد بتقليص المساحة المزروعة إلى ما دون النصف للمرة الأولى منذ عقود.
تكشف نشرة الإنذار المبكر الصادرة عن الفاو أن الأمطار الركامية المتوقعة خلال فصل الخريف قد تتسبب في فيضانات مفاجئة، خاصة في الأراضي المنخفضة الغربية والجنوبية، حيث من المرجح أن تتجاوز كميات الهطول المعدلات الطبيعية. وتشير التوقعات المناخية إلى أن معدلات الأمطار ستبلغ ذروتها في المرتفعات الجنوبية والوسطى والشمالية، مع احتمالية تسجيل أكثر من 300 ملليمتر في بعض المناطق.
في المقابل، تشهد محافظات إب ولحج وتعز والضالع وذمار وعمران نقصاً حاداً في هطول الأمطار، مما أدى إلى تأخير مواسم الزراعة ووضع الحقول تحت ضغط شديد. هذا التباين المناخي الصارخ يضع البلاد أمام معضلة استثنائية، حيث تواجه في آن واحد خطر فقدان المحاصيل بسبب الفيضانات في مناطق، والجفاف في مناطق أخرى.
تُصنف مستويات خطر الفيضانات بأنها مرتفعة في مستجمعي وادي سردود ووادي سهام، بينما تعتبر متوسطة في وادي رماع ووادي زبيد، ومنخفضة في وادي حرض ووادي بنا ووادي تبن. ومن المتوقع أن تتحمل محافظات الحديدة والمحويت وصنعاء وذمار وريمة العبء الأكبر من هذه التقلبات المناخية، مع احتمالية تعرض البنية التحتية الزراعية لأضرار جسيمة.
تكشف الأرقام الصادمة أن مساحة الأراضي الزراعية المعرضة لخطر الفيضانات تصل إلى حوالي 113,522 هكتاراً، وهو ما يمثل 8% من إجمالي الأراضي المزروعة في البلاد. هذه المساحات تُعتبر حيوية لإنتاج محاصيل استراتيجية مثل الذرة الرفيعة والدخن، مما يجعل خسارتها تهديداً مباشراً للأمن الغذائي الوطني.
يُظهر تحليل بيانات دعم الأمن الغذائي العالمي أن مساحة الأراضي الزراعية في اليمن كانت تُقدر بحوالي 2.2 مليون هكتار خلال الفترة من 1990 إلى 2017. لكن بحلول نهاية يوليو الماضي، انكمشت المساحة المزروعة فعلياً إلى 941 ألف هكتار فقط، أي ما يعادل 42.8% من المساحة الإجمالية المتاحة للزراعة.
تشير تقارير الاستشعار عن بُعد وبيانات وزارة الزراعة والري اليمنية إلى أن محاصيل الحبوب، وخاصة الذرة الرفيعة، كانت حتى يونيو الماضي في مراحل نمو حرجة لكنها تعاني من إجهاد شديد بسبب نقص الأمطار وتأخر الموسم الزراعي الرئيسي. هذه الظروف تسببت في انخفاض رطوبة التربة وارتفاع معدلات التبخر، مما أثر سلباً على المحاصيل الغذائية والنقدية.
تتوقع النشرة الأممية أن يشهد اليمن خلال الفترة من أغسطس حتى أكتوبر تفاوتاً كبيراً في درجات الحرارة، حيث ستنخفض إلى أقل من 25 درجة مئوية في المناطق الجبلية المرتفعة، بينما ستتجاوز 35 درجة مئوية في شمال حضرموت والمهرة والسواحل المجاورة لتعز ولحج.
تحذر الأمم المتحدة من أن الفيضانات المحتملة قد تفاقم أزمة انعدام الأمن الغذائي في المناطق المصنفة ضمن المرحلة الثالثة فما فوق من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، حيث تضطر الأسر المتضررة إلى اعتماد استراتيجيات تكيف ضارة مثل تقليص استهلاك الطعام أو بيع الأصول الإنتاجية لضمان البقاء.
يرى خبراء الزراعة أن مواجهة هذه التحديات المناخية المعقدة في اليمن تتطلب تبني تقنيات ري متطورة وأكثر كفاءة، إلى جانب إحياء بعض أساليب الري التقليدية التي أثبتت نجاعتها في الحفاظ على المياه عبر التاريخ. كما يشددون على ضرورة توفير الدعم الفوري للمزارعين من خلال توفير المدخلات الزراعية الأساسية وتحسين شبكات الري والصرف.
تؤكد المنظمة الأممية أهمية تفعيل أنظمة الإنذار المبكر وتطبيق خطط الطوارئ، بالإضافة إلى التخزين المسبق للمساعدات الغذائية والمدخلات الزراعية والبيطرية في المناطق المعرضة للخطر. وتشدد على أن التنسيق الفعال بين القطاعات المختلفة أمر حيوي لحماية الفئات الأكثر ضعفاً من النزوح وفقدان مصادر عيشهم.
تحذر التوقعات من أن استمرار تراجع المساحات المزروعة وفقدان الأراضي الزراعية بسبب الكوارث المناخية سيؤدي إلى توسيع فجوة الأمن الغذائي وزيادة الاعتماد على الواردات في دولة تواجه بالفعل أزمة اقتصادية حادة، مما قد يزيد من معاناة السكان ويهدد الاستقرار المعيشي لملايين اليمنيين الذين يعتمدون على الزراعة كمصدر رزق أساسي.